[الركون إلى الدنيا]
السبب الآخر الذي به يفتر الناس عن الدعوة -واستمع لهذه الأسباب، وابحث عن دائك، فإن بعض الناس لا يدري أصلاً، ولعل أحد هذه الأسباب أو أكثرها تقع عليك يا عبد الله-
آفة النسيان: الركون إلى الدنيا:-
همه قلبه حياته مماته لأجل الدنيا يعيش من أجلها يموت من أجلها لا يتمنى ولا يطلب غيرها قلبه منشغل بها واسمع إلى ما يقوله الرب جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:١٥] كان يوماً من الأيام يأمر بالمعروف، دخل في تجارة، وليست بحرام، ولكن انشغل عن الدعوة، بدأ في تجارته يتعامل بالربا، بدأ يسلف النساء، بدأ يعاقر الحرام، بدأ يتساهل في دين الله شيئاً فشيئاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦].
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يدخل على الملك، فيقول له الملك الطاغية: يا بن تيمية! سمعنا أنك تريد ملكنا، وملك آبائنا؟
أتعرفون ماذا قال ابن تيمية؟! كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، سُجن مرات عديدة، رُمي في بئر عاماً كاملاً، لا يرى الشمس فيه، يُنزل إليه الطعام بالحبل، يقضي حاجته في مكانه، عاماً كاملاً في السجن.
استدعاه الملك فقال له: سمعنا أنك تريد ملكنا؟ انظروا إلى أهل الدنيا، يخافون من الدعاة إلى الله، يظنون أن الدعاة يريدون الحكم، يريدون الملك، يريدون المنصب، لا والله، الدعاة إلى الله جل وعلا ما يريدون شيئاً من الدنيا، فقال له شيخ الإسلام، وقد أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال له: والله ما ملكُك ولا ملك آبائك وأجدادك يساوي عندي حفنة من هذا التراب.
انظر يا عبد الله إلى الدنيا في قلب شيخ الإسلام، مات ولم يتزوج، ليس رغبة عن الزواج، ولكنه لم يتفرغ للزواج، من سجن إلى آخر، من سجن إلى آخر، حتى توفي في سجن دمشق وقد ختم القرآن إحدى وثمانين مرة، حتى وصل في المرة الحادية والثمانين إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥] ثم خرجت روحه إلى بارئها، انظروا لمن تبرأ من الدنيا! لمن ترك الدنيا! كيف عوضه الله جل وعلا! لعله يحصل على مقعد صدق عند مليك مقتدر.
صهيب الرومي: جاء فقيراً إلى مكة، فجمع المال، انظر -يا عبد الله- الفتنة، جمع المال، وكان ثرياً غنياً تاجراً معروفاً في قريش، فلما آمن وأراد الهجرة إلى المدينة، قال له صناديد قريش: جمعتَ أموالنا، وتريد أن تذهب بها؟! والله لا ندعَك، الآن لو يُقال لك: تريد أن تدعو إلى الله؟! تريد أن تنشر دين الله؟! اترك جميع أموالك، اترك هذا العمل، اترك المنصب الذي أنت فيه، اترك الدنيا وزينتها، هل تفعل؟!
قال صهيب الرومي: [يا قوم! تريدون أموالي وتتركوني أهاجر بديني؟ قالوا: نعم، نريد أموالك، قال: اذهبوا إلى مكان كذا وكذا ففيه جميع أموالي وما جمعتُه] فذهبوا يأخذون أمواله فإذا بـ صهيب الرومي يهاجر، فلما أقبل إلى المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥] إن المنافق إذا أمرته بعمل دعوي، أو شجعته لنشاط دعوي يحسب حسبته: هل هناك مصلحة مادية؟! هل هناك أموال من ورائها؟! هل هناك عَرَضٌ قريب، شهرة، منصب، أموال، فإذا لم يجد يتعذر بالأعذار: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:٤٢] والله الذي لا إله غيره لو كانت الدعوة إلى الله جل وعلا فيها أموال، وفيها مناصب، وفيها كنوز لاتبع أكثر الناس سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولكن بالعكس، فيها تضحيات، فيها بذل من المال، فيها بذل من الوقت والنفس ولعلها الروح يا عبد الله!.
ولهذا ما يتبعها إلا قليل، وإذا سألتهم يعتذرون بالتجارات، يعتذرون بالأعمال، يعتذرون بالأولاد، يعتذرون بالأهل، يقولون لك: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:١١] هذا عذرهم في السابق وهذا عذرهم في اللاحق.
اسمع يا عبد الله إلى أبي بكر رضي الله عنه، لما علم أن الدعوة إلى الله تحتاج منه بعض المال، تحتاج الآن الدعوة إلى الله مالاً، وأنت فقير ما عندك شيء، أتعرف ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟! جاء بكل ماله، لم يفكر في غده، ولم يفكر في أولاده، وأهله، الإيمان إذا بلغ هذه المرتبة، لا يفكر الإنسان بحطام الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟! قال: تركتُ لهم الله ورسوله) أسألك بالله، هل سمعت أن ابناً لـ أبي بكر أو بنتاً لـ أبي بكر مات جوعاً؟! لا يا عبد الله! {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦].
عبد الله: إذا كنت تخاف بعض الأحيان على منصب، أو رزق، أو أموال، أو تجارات تضيع، فاعلم -يا عبد الله- أن الرزق: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢] لا أقول لك: اجلس في المسجد، أو اترك العمل نهائياً، لا يا عبد الله! ولكن ادعُ إلى الله ولو كنت في العمل، ادعُ إلى الله ولو كنت في تجارة، ادع إلى الله جل وعلا ولو كنت تبيع وتشتري، كن داعياً إلى الله جل وعلا صباح مساء، في السر والعلن، في البيت وخارج البيت، كن داعياً إلى الله تبارك وتعالى.