[أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه له]
كان يجلس مع الشيوخ ويجالس الصبيان والأطفال، فإذا به يسلم عليهم واحداً واحداً.
تأتي إليه الجارية وهو نبي الله وخير من وَطأ قدمُه الثرى عليه الصلاة والسلام فتمسك يديه الشريفتين فتذهب به حيث شاءت، تسأله عن حاجتها، فيقضي لها حاجتها عليه الصلاة والسلام.
دعا إلى الله فما جزع ولا كلَّ ولا ملَّ.
يأتيه الأعرابي يوماً من الأيام وهو يخطب الجمعة، فيقول: (يا رسول الله! علمني ديني، فينزل من خطبته، ويجلس إليه يعلمه أمر دينه) الله أكبر!
لما أتى رجل من الأعراب فبال في المسجد فكاد الصحابة يقتلونه، أو يهموا به، فيقول للصحابة: (دعوه، دعوه، لا تزرموه -رحمة وأي رحمة! - فيأتيه النبي بعد أن يقضي بوله، يقول له: يا فلان! إن هذه المساجد لم توضع لكذا وكذا، إنما وضعت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن والعبادة، فيقول الرجل -بعد أن يرى خلقه-: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فيبتسم النبي، ويقول له: لقد حجرت واسعاً يا هذا) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].
كانوا يحبونه حباً جماً، وفي الجهاد تظهر صور من المحبة:
١ - هذا طلحة رضي الله عنه، في غزوة أحد يقاتل دون النبي عليه الصلاة والسلام، وكلما أراد أن يتقدم يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم غيره.
قال: (أنا يا رسول الله! فيقول له النبي: اجلس، فيقاتل أحد الصحابة فيقتل، حتى جاء دور طلحة رضي الله عنه، فيقاتل حتى قُطِعَت أصابعه، فإذا به يقول: حسبي، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون).
٢ - أبو طلحة الأنصاري في أحد، يقول: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تُشْرِف لا يصيبنك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله).
٣ - أبو دجانة في معركة أحد، يترِّس نفسه على النبي، والسهام والنبال تقع على ظهره رضي الله عنه وهو لا يبالي، ولا يهتم رضي الله عنه، لأن السهام تقع على ظهره ولا تصيب رسول الله.
مَن هذا النبي الذي أحبه الناس هذا الحب؟ قال الشاعر فيه:
أصفى من الشمس في نطقٍ وموعظةٍ أمضى من السيف في حُكْم وفي حِكَمِ
أغَرُّ تشرق من عينيه ملحمةٌ من الضياء لتجلو الظُّلْم والظُّلَمِ
في همة عصفت كالدهر واتقدتْ كم مزقت من أبي جهل ومن صنمِ!
محرر العقل باني المجد باعثنا من رقدة في دثار الشرك واللممِ
بنور هديك كحلنا محاجرنا لما كتبنا حروفاً صغتَها بدمِ
٤ - هذا أحد الأنصار: يقول النبي: (مَن يشتري لنا نفسه؟ فيقول الرجل: أنا يا رسول الله! فيدخل الرجل في صفوف المشركين -انظر للتضحية لرسول الله- فيقاتل الرجل حتى تثخنه الجراح، فيحمل وقد سالت الدماء من على جسده، فيوضع والنبي جالس عليه الصلاة والسلام، فيوضع خده على قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول النبي: أدنوه مني، فإذا بالرجل خده على قدم النبي تفيض روحه إلى بارئها).
٥ - سعد بن الربيع: يقول النبي: (أين سعد؟ أين سعد؟ ابحثوا عن سعد، وائتوني بخبره، فيذهب الصحابة يبحثون عنه، فيأتيه رجل وإذا بـ سعد يحتضر، في الرمق الأخير، فيقول له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: كيف تجدك؟ فيقول سعد: أبلغه مني السلام، وأخبره أني أجد ريح الجنة -الله أكبر! وهو في الدنيا يشم رائحة الجنة- ثم أخبر قومي الأنصار، وقل لهم: لا عذر لكم! أن يُخْلَص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف).
٦ - هذا أنس بن النضر لما رأى بعض الصحابة جالسين، قال لهم: [ما الذي أجلسكم؟ قالوا: مات رسول الله، قال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله] فأخذ أنس يخترق صفوف المشركين، فيقاتل في سبيل الله، فيصاب بأكثر من ثمانين ضربة وطعنة، فيخر على الأرض صريعاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٢٣].
٧ - أما في حنين وما أدراك ما الذي حصل في حنين؟! لما تراجع الناس تقدم أشجع الناس، إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، يتقدم وهو على بغلة، والصحابة يمسكون زمامها، يريد النبي أن يتقدم في صفوف المشركين رافعاً عصاه وسلاحه وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، يا عباس! نادِ أصحاب السمرة، نادِ أصحاب البيعة، فيناديهم العباس، فإذا بالصحابة يتذكرون تلك البيعة التي بايعوا فيها النبي على الجهاد، فيرجعون بدوابهم، ومن لم يستطع الرجوع بدابته يرمي نفسه من عليها، وهو يقولون: لبيك رسول الله! لبيك رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا).
لما انتهت المعركة قسم النبي الغنائم على الذين أسلموا حديثاً، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، خاف الأنصار أن النبي قد هجرهم، وأنه سوف يرجع إلى وطنه، وبلاده، فإذا بالنبي يجمعهم في حائط، فيقول لهم: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، الله ورسوله أَمَنُّ.
ثم قال لهم النبي -اسمع ما الذي قال! -: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال لهم: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار آخر؛ لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار أخذ يدعو لهم، فبكى القوم حتى ارتفع صوتهم بالبكاء، واخضلَّت لحاهم وهم يقولون: رضينا برسول الله قَسَماً وحَظَّاً) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].