[هم الآخرة]
يقول يوسف: قال لي سفيان الثوري: ائتني بالماء، يقول: فقربت إليه كوزاً من ماء، ليقوم في الليل، يقول: فاقترب من الماء، ووضع يده على خده، يقول: فتركته وذهبت ونمت، يقول: فاستيقظت لصلاة الفجر، فجئت إليه فإذا هو على الحال التي تركته عليها، فقلت له: يا أبا عبد الله ما زلت على الحال التي تركتك عليها؟
قال: نعم، على هذه الحال.
قال: ولم؟
قال: هم الآخرة، ولهذا من الناس من أخلصهم الله بهذا: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:٤٦] ما هي الخالصة؟ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:٤٦].
كان بعضهم يصلي، فيبكي وتسيل دموعه وتهراق، ولا يشعر من بجنبه أنه يبكي، أين همه؟ همه في الآخرة.
وكان بعضهم كما تقول زوجة مسروق تقول: كان يصلي الليل، حتى تجلس خلفه وتبكي، تبكي رأفة على حاله، ورحمة به، تقول: فإذا أذن الفجر زحف كما يزحف البعير لم؟ همه الآخرة قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨].
حتى قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها) إذا أراد أن ينام خوف النار يفزعه فيوقظه، وإذا أراد أن يتلذذ بالفراش حب الجنة يطيره، حتى قالت بنية لأبيها: يا أبتي! مالي أرى الناس ينامون وأنت ما تنام، نومك قليل؟ فقال هذا الرجل -اسمع لتلك الكلمات ثم انظر لحالنا وهمومنا-: يا بنية! خوف أبيك من النار أذهب عنه النوم.
عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، يقول ابن عمر: أنزل فيه قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:٩] في الليل ما ينام، حتى قيل: إنه كان يختم القرآن كله في ليلة.
دخل عليه الخوارج، وهو في غرفته، طلب الصحابة أن يقاتلوا دونه فأبى، قال: ما تقاتلون اتركوهم، فدى الأمة بدمه، دخلوا عليه واقتحموا الباب، ثم طعنوه تسع طعنات، أشقى القوم طعنه تسعاً قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر.
وكذب، تسع كلها ليست لله، طعنه فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه ليحي الليل بالقرآن.
انظر الهموم، يمشي على الأرض وهمه في الآخرة، همه أن يدخل الجنة، همه أن ينجو من النار، حتى قال: [والله لو كنت بين الجنة والنار، وما أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أصير رماداً].
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:٩] من الذي جعله ساجداً وقائماً في الليل والناس نيام؟
بل الناس أمام الملهيات، وفي المباحات، ويتلذذون بالفرش والنساء، أما من هو ساجد وقائم لم؟
ما الهم الذي يشغل قلبه؟ قال تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩].
هل يشغل قلبك هم الدار الآخرة أم أنك نسيت؟ حتى صرت من الذين يصلون ولم يصلوا، ينقرها ولا يدري ماذا صلى، وبم قرأ الإمام، ولم يتذكر يوماً خشع فيه من قراءة القرآن، من السلف من قتل ومات بآية، تعرف ما هذا الآية؟
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:١٦] أي قلوب هذه؟ قلوب ملأتها الدنيا، وفتن الدنيا، حتى أصبحت تكبر وكأنها ما كبرت، بل جاءني أحد الناس يشتكي يوماً من الأيام -ولن أنسى هذا السؤال- يقول: والله أفكر في المعصية حتى في السجود، حتى في السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، أي قلب هذا؟ بل أي هم هذا؟
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦].
ألا يأتيك هم -أخي الكريم- أنك يوماً من الأيام سوف تكون طريح الفراش.
الحسن البصري يدخل يوماً من الأيام على البيت، فيقول له أهله: يا أبا سعيد! العشاء، فيقول: كلوا عشاءكم، فيقولون له: يا أبا سعيد! برد العشاء، فيقول لهم: كلوا عشاءكم، فقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه، رأيت رجلاً يحتضر: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩].
لا تقل أخي الكريم! أنا أصبحت أفضل من غيري، والحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحة، عند الممات يتبين كل شيء، ويظهر ما في القلب، همك الذي يشغلك سوف تتلفظ به عند الموت، بل يخرج الله عز وجل السرائر: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:٩].
إن لم يكن في الموت، فعند اللقاء عند الله جل وعلا، رجل قلبه يتعلق بأمرد صبي، فلما حانت ساعة وفاته قال:
أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف في النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقالوا له: اتق الله، ماذا تقول؟ أخرج الله ما في قلبه، إن كان حب مردان، أو أموال، أو تجارات وعقارات، أو أثاث، أو فتن الدنيا، أو تعلق قلبه ببيت أو سيارة أو أولاد أو زوجات، فسوف يظهر الله ما في قلبه {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] عند الممات يقولها لكن هل تنفعه؟! ولتتخيل أخي الكريم تلك اللحظات التي فيها تنازع الموت، تخيل ولعلها تكون الليلة الأخيرة هذه، وسل نفسك هل أنت مستعد لهذه اللحظات؟ أم أن ملك الموت سوف يطرق عليك الباب، أو يستأذن منك قبل أن ينزع الروح منك؟ أم أنك يا عبد الله سوف يؤخرك الله حتى ترجع الأمانات إلى أهلها، وتتوب من بعض المعاصي التي بينك وبين الله، لا يعلم عنها إلا الله جل وعلا؟
ولهذا الإمام أحمد لما أشغله هذا الهم، وأقلقه ذلك الهم، يوم من الأيام جاءه رجل فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد من مجلسه، وكان حوله التلاميذ والأصحاب، فدخل في غرفة وأغلق الباب، فانتظروه فتأخر، فاقترب أحدهم يستمع إلى الإمام أحمد خلف الباب، يردد الشعر نفسه وهو يبكي:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
لا تقل: ما في أحد، أغلقت الباب، ويفتح التلفزيون وينظر، ما في أحد؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
عمر بن الخطاب، انظر إلى الهم الذي أشغله، يقال: كان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء.
أخي الكريم: كانوا لا ينامون الليل من الهم الذي يقلقهم، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨] يرددها ويبكي، ليلة من الليالي تقوم عائشة فتسمع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يبكي، فتقترب فإذا هو في السجود، تعرف ماذا يقول؟
يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي) انظر الهم الذي يقلقهم.