[التفكر في الخسارة الكبرى أو الفوز العظيم]
يا عبد الله! إذا أردت أن يقوى الإيمان عليك أن تتذكر الموقف الثالث، الذي فيه يأمر الله عز وجل بالناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيأتي الرجل، وتخيل نفسك حين يناديك الله عز وجل يوم القيامة باسمك، وكنت بين الناس في المحشر، بعد خمسين ألف سنة، والشمس تدنو على الرءوس مقدار ميل، والناس قد أنهكهم التعب والحر، فيفصل الله عز وجل بينهم، فينادى بك: أين فلان بن فلان؟ ينادى باسمك فترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتكاد تسقط على ركبتيك فتجرك الملائكة جراً إلى الله إلى الجبار إلى الملك إلى العزيز إلى القهار، وأنت تتذكر الذنوب كلها، تتذكر يوم أن نمت عن صلاة الفجر، وتتذكر يوم أخرت صلاة العصر.
تتذكر يا عبد الله! يوم كان الصالحون يأمرونك بالمعروف وكنت تصد، كنت تقرأ الآيات {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٧٨] ولكنك كنت تصر على الربا، كنت تعرف أن عليك مسئولية أن تأمر بناتك وزوجاتك بالحجاب، ولم تكن تفعل، يُؤتى بك أمام الله يوم القيامة فيذكرك الله عز وجل بالذنوب، فإن كنت ممن تاب وأصلح حاله في الدنيا، يقول الله عز وجل له يوم القيامة، بعد أن يقرره بالذنوب، وبعد أن يقول: (أي ربِّ! هلكت، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتابه بيمينه، فيذهب إلى الناس، فيقول لهم: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩ - ٢٠]) يذهب ليبشر الناس، يقول: انظروا إلى كتابي! انظروا إلى صحيفتي! انظروا إلى مجالس الخير! انظروا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! انظروا إلى قيام الليل إلى صيام النهار إلى الصدقة إلى البذل إلى المعروف إلى الإحسان إلى الناس إلى العمرة تلو العمرة إلى الجهاد في سبيل الله انظروا!
أمَّا إن كنت من الصنف الآخر -فنسأل الله العافية والثبات- فيقال له بعد أن يقرره بذنوبه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:٣٠] إنها علامة الرسوب لا عمر آخر، ولا حياة أُخرى، ولا رجوع إلى الدنيا، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:١٢] بعد أن يُقِر بالذنوب، يقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:١٢] ماذا يريد الآن؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢].
يا رب! أرجعنا إلى الدنيا نعمل الصالحات!
يا رب! أرجعنا فوالله إنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فلا يفارق بيت الله! ليظل ساجداً إلى أن يموت، والله لا يبقي فلساً واحداً في جيبه إلا ويتصدق به! يتمنى كل هذا، ولكن: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٠ - ٣٢] كما قال الله عز وجل: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:٤٨] فعندما يقترب من النار، فإذا بالنار قد فتحت أبوابها، فيدخل إلى جهنم فإذا هي سوداء تزفر وتنادي فتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيد} [ق:٣٠] ماذا ينظر؟ إنه ينظر إلى أصحابه في النار، إلى رفقائه في الدنيا ينظر إليهم وهم في النار، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:٣٨] ينظر إلى رفقائه فيقول: يا رب! هو الذي أضلني.
يا رب! كان يأخذ بيدي إلى الأسواق.
يا رب! كان يقول لي: اذهب معنا لنسافر إلى بلاد الغرب لنفعل ونفعل، كان يقول لي: إياك أن تذهب مع الصالحين، أو أن تذهب إلى المساجد، كان ينهاني عن الطاعة ويأمرني بالمعصية، [عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها].
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تذكروا تلك المواقف، كما قال الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:١٦] لا ينام أحدهم الليل عندما يتذكر النار، أو يتذكر الوقوف أمام الله عز وجل، أو يتذكر موقفه عند الاحتضار، أو يتذكر ذلك الموقف إذا خرج من قبره والناس يخرجون من أسفل منه، يخرجون من القبور للعرض أمام الله عز وجل، فيتذكر هذه المواقف.
كان أحدهم لا ينام الليل، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:١٦] يقوم أحدهم الليل! لماذا يا إخوان؟ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩].