[الكلام]
ثالثاً: الكلام.
بعض الناس ما عنده إلا الكلام، لو جلس عندك سبع ساعات لما تعب لسانه، ويأتي بقصة بعد قصة، وحادثة بعد حادثة، وسالفة بعد سالفة، وكلام بعد كلام، ولا يمل، سبحان الله! كل الناس عندهم أحاديث طيبة، يُمْضِي الإنسانُ نصف ساعة يسلي بها الوقت والمجلس، لا بأس بهذا، والكلام إذا كان فيه فائدة، وترويح عن النفس فلا بأس به، لكن بعض الناس يضيع وقته في الكلام، ينتهى من هذا، وهذا كأنه أحس بالملل، فيذهب عند فلان، ويجلس معه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الثالث، ويضرب عليه الهاتف: هل عندك شيء؟ فيجيب: ليس عندي شيء، فيقول: أتمنى أن أقعد وإياك قليلاً، فيجلس وإياه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الرابع، فيقول: يا فلان أنا جالس مع نفسي وأريد أن أجلس معك، وهكذا ثم يأتي الليل فينام ويقول: الحمد لله، اليوم قضيت وقتي كله في طاعة الله، فقد زرتُ فلاناً وفلاناً.
وهو لا يعلم أنه قد ضيع وقته كله، وأن هذا الكلام كله سيحاسب عليه عند الله عزَّ وجلَّ.
والزيارة لا بد منها، ولابد عليك أن تكرم الضيف، ولا تقل: أنا طالب علم، ليس عندي وقت.
هذا خطأ، بل عليك أن تكرمه، وإذا كان ضعيف الإيمان يريدك أن تنصحه، وقد يكون عنده مشكلة، فعليك أن تكرمه مهما كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) لكن بعض الناس ليس عنده شغل إلا الزيارات، رجل فارغ، يجلس من العصر إلى أذان المغرب، ولولا الأذان لما خرج، ولو أتاك بعد الفجر، فسيجلس إلى الظهر، حتى لو قلت له: يا فلان أنا مشغول، يقول: سأذهب معك إلى ظروفك.
يريد أن يخرج معك في شغلك، حتى ولو كنت تريد أن تجلس، سبحان الله! بعض الناس هكذا، يريد أن يضيع أوقات الناس، لكن المهذب، لا تقل له: اخرج أنت فارغ، لا يا أخي، اجلس معه، بالتعريض، تأتي بكتاب وتقرؤه عنده، أو تضع شيئاً وتكتب، فسيفهم إذا كان ذكياً، أو يأخذ كتاباً آخر ويقرأ عندك، فتكون قد استفدت وأفدت.
ابن الجوزي يأتي أمثال هؤلاء فيقول: إن أنكرتُ عليهم صارت بيني وبينهم وحشة، وإن سكت ضاع العمر، فكنت آتي بالأقلام لأبريها، والدفاتر والأوراق لأقطعها ويسطر.
لأن هذه تأخذ عليه وقت، لم يكن عندهم مثلنا، تشاكيل وقلم جاهز، بل الأقلام تُبَرَّى، والأوراق تُقَطَّع وتُسَطَّر، يقول: آتي بهذه التي لا تحتاج إلى شغل الذهن، ولا تمنع عن المحادثة، آتي بها عند الضيوف، وأبدأ أستغل الأوقات بتقطيع الأوراق وتجهيز الأقلام، حتى إذا ذهبوا بدأ في الكتابة، وفي النسخ، وفي العلم، وفي المطالعة، انظروا كيف استغل الوقت!
وبعض السلف كان صريحاً، حتى إن بعضهم يقال له: لعلنا شغلناك.
فيقول: صدقتم؛ لقد كنتُ أقرأ كتاباً فلما أتيتموني تركتُ الكتاب وأتيتكم.
وعليك بحسن الاعتذار، فتقول لإخوانك: يا فلان عندي شغل، اسمح لي جزاك الله خيراً، فإني كنت ألخص في شريط وما عندي إلا هذا الوقت، أراك إن شاء الله بعد المغرب بأسلوب جميل، باعتذار لبق، بأدب، لا تقفل الباب في وجهه، أو تدعو عليه، وبعض العلماء من شغله لو تذهب وتطرق عليه الباب بالسماعة يرد عليك، ليس عنده وقت، ولو جلس يستقبل كل إنسان، ويجلس مع كل إنسان، لما استفاد الناس من علمه، ولما صار علمه إلا لحاجة الناس، والكلام الفارغ مع فلان وغيره.
وبعض الناس عنده عقدة نفسية، كلما قلتَ له شيئاً قال: أنا مشغول، يريد أن يظهر أنه طالب علم، وأنه داعية إلى الله، كلما قلت له شيئاً قال: اسمح لي لا أستطيع أنا مشغول.
وإذا قلتَ له: يا فلان عندنا اليوم نشاط رياضي، قال: أنا مشغول.
وإذا قلت: عندنا طلعة، قال: اسمحوا لي، لا أستطيع، أنا مشغول، أريد أن أحفظ، وأريد أن أقرأ، لا تصل إلى هذه الدرجة من العقد، قد يكون هذا رياء والعياذ بالله، تريد أن تقول للناس: لاحظوا أني ما امتنعت من مجيئي معكم في الطلعة إلا ليقول الشباب: فلان -ما شاء الله- ليس عنده وقت يطلع أو يأكل.
وكأن الأمر أصبح رياءً، يا أخي أنت لابد أن يكون لك وقت للراحة فاجعله مع إخوانك؛ أما أن تظهر الانشغال، فهذا مرض وعقدة نفسية فانتبه لها.