[تربية النفس على التقلب بين الصبر والشكر]
أيضاً من المقامات -يا عبد الله- بينك وبين الله جل وعلا أن تتقلب بين الصبر والشكر، وإياك والثالث، فأنت إما أن تكون صابراً وإما أن تكون شاكراً: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
اسمع يا -عبد الله- إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في مكة أتعرف ما الذي جرى بهم؟ حاصرهم المشركون في شعبٍ حتى إنهم كانوا يتضورن من الجوع، والأطفال يبكون، والمشركون أمامهم يأكلون من اللحوم والأطعمة، حتى إن الصحابة من شدة الجوع أكلوا أوراق الشجر! انظر يا عبد الله إلى هذه الحالة التي كانت عند الصحابة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠].
ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشط شعر بنت فرعون؛ فإذا بالمشط يسقط من يدها، فقالت هذه الماشطة: باسم الله! وأخذت المشط، فقالت البنت: من؟ أتعنين أبي؟ فقالت الماشطة المؤمنة: بل ربك ورب أبيك الله رب العالمين! فقالت البنت: سوف أخبر أبي؟ فقالت الماشطة: أخبريه وليكن ما يكون انظروا يا عباد الله! على الثبات، فاستدعاها فرعون، وتعرفون من هو فرعون! الذي قتل الرجال، واستحيا النساء، واستعبد الناس، الطاغية الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى! وهل تعرف من وقفت أمامه؟ إنها امرأة خادمة، كانت ماشطة لبنت فرعون! هذا الموقف الذي لا يستطيع أن يقفه الرجال الأشداء ووقفته تلك المرأة.
فقال فرعون لها: يا ماشطة! ألك رباً غيري؟ فقالت الماشطة: نعم! ربي وربك الله رب العالمين، انظر للجرأة وللقوة، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، قال: يا ماشطة! توبي وارجعي، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فجاء فرعون بأطفالها الصغار -والأم لا تصبر على أذية أولادها حتى لو كان في ذلك موتها- فجاء بقدر فيه زيت، ثم أحماه حتى أصبح يغلي، ثم جاء بأولادها واحداً تلو الآخر، ورماهم في القدر أمام أمهم وهم يبكون، واللحم ينفصل عن العظم!
انظر يا عبد الله إلى هذا الموقف! هل تتحمله أنت أيها الرجل؟! والمرأة صابرة رابطة الجأش، فقالت له: أطلب منك طلباً، فظن فرعون أنها سوف ترجع، فقال: ما هو؟ قالت: أطلب منك أنك إذا قتلتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفننا في قبر واحد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:٢١٤].
يا عبد الله: لا تظن أن النعمة تدوم، ولا تظن أن الأمر ميسر إلى أبد الدهر لعلك تبتلى، حتى قال عليه الصلاة والسلام لـ حذيفة: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: لِمَ) هذا أول إحصاء في الدولة الإسلامية، قال: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: ولِمَ؟ قال: أربعمائة نفس، قال عليه الصلاة والسلام لا تدري لعلكم أن تبتلوا) يقول حذيفة: مرت علينا أيام لا يستطيع أحدنا أن يقضي حاجته.
اسمع لـ أبي ذر رضي الله عنه، لما أسلم قام في الناس، وهو ينطق الشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجاءه المشركون يضربونه من كل جهة، حتى أدموه فصار كتمثال من الدم، حتى جاء العباس يفكهم عنه وكان مشركاً في تلك الأيام، ثم جاء في اليوم الثاني هل أيس؟ وهل تراجع؟ وجاء في اليوم الثاني وقام بين المشركين وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهم يضربونه حتى صار كتمثال من الدم، وجاء في اليوم الثالث يعلنها صريحة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صبروا يا عبد الله!
أسمعت بلالاً كيف كان يجر على الرمضاء؟ أما سمعت ببعضهم كان يحمى الحديد حتى يحمر، ثم يطفأ في ظهره، وبعضهم كان ينام على الجمر، وكان أحدهم يقول: أحد أحد، صابر على دينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠].
المقام الثاني: الشكر: اشكر النعمة التي أنت فيها، وأخص النساء ممن لا يشكرن نعمة الله جل وعلا عليهن، واسمع يا عبد الله! إلى هذا الموقف الذي يذكره أحد المشايخ، وقد نقلته تقريباً بالنص، ولعلك تقول لي: هذا من نسج الخيال، لكن أقول لك: إن هذا الموقف حال كثير من الناس، ممن لا يشكرون نعمة الله جل وعلا، ممن يرزقهم الله عز وجل رزقاً حلالاً، ينامون في بيت واسع، ورزقهم الله عز وجل زوجة صالحة، ورزقها الله عز وجل زوجاً صالحاً وأولاداً وذرية ولكن لا يشكرون نعمة الله، يريدون أكثر من هذا بالحرام، اسمع إلى هذه المرأة تقص حالها، وحال كثير من النساء، ولعلك تعتبر بهذه القصة، ثم انظر حال كثير من الناس.
تقول هذه المرأة واصفةً نفسها مع زوجها وكيف أنها كفرت نعمة الله، تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنئ بال، زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكتها تفتق الزهور، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت مع زوجي نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، نعمة وأي نعمة، لا يحصل على هذه النعمة كثير من الناس، يتمنونها فلا يحصلون عليها، وتصلي معنا الدموع، في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: إنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم -اسمع لكفر النعمة- أردنا أن تكثر عندنا الفلوس، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهم ربوية -انظر الإغراء- لتكثر عندنا الأموال وندخرها للعيال-انظروا الحجة- ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبْكة، تقول: ثم انخفضت أسهم السوق، وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق، أنت طالق، فبكيت وبكت الصغيرة وعبر الدموع الجارية تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧].
عبد الله: لا تنظر إلى من هو أقوى منك وأكثر منك، وأفضل منك نعمة، لكن انظر إلى من هو دونك، ولا تزدري نعمة الله جل وعلا.
عبد الله! هذا هو القسم الأول الذي أردت أن أتحدث عنه.