{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:٧] في يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين، يأتي الناس إلى أبي البشر ليشفع لهم فيقولون له: أنت أبونا، وأنت أول من خلقك الله اشفع لنا عند ربك، ماذا يقول آدم؟ ماذا يقول نوح؟ ماذا يقول إبراهيم؟ ماذا يقول موسى؟ ماذا يقول عيسى؟ أتعرف ماذا يقولون؟
كلهم يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، اذهبوا إلى عيسى، اذهبوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، هل يقول اذهبوا إلى غيري؟
تقف الشفاعة عنده، فإذا به يقول -بأبي هو وأمي-: أنا لها أنا لها أنا لها فيذهب إلى ربه جل وعلا فيخر ساجداً بين يديه، ولا يحق لأحد أن يقوم هذا المقام إلا هو، فيخر ساجداً ويلهمه الله عز وجل تسابيح وتحاميد ما كان يقولها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل لحبيبه ولخليله محمدٍ عليه الصلاة والسلام:(يا محمد! ارفع رأسك وسل تُعط واشفع تشفع) تظنه ماذا يقول؟ هل يطلب النجاة لنفسه؟ هل يطلب النجاة لأولاده وأحبابه فقط؟ يقول:(اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي).
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}[الفرقان:١ - ٢]{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الزمر:٦٧](ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) أسمعت بهذا الحديث؟ الله يكلمك ويكلم كل الناس، بعض الناس لقلة إيمانه وضعف يقينه يقول الله يكلم كل البشر؟ نعم، أليس الرب جل وعلا الآن يسمعنا جميعاً؟ لو كل واحد في الأرض دعا ربه لسمعه الله، بل كل واحدٍ في الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يرد الله عليه فيقول: حمدني عبدي، الرب جل وعلا عظيم.
فإذا بالرب جل وعلا يكلمك (ما منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) لا توجد واسطة، (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم) هل قدم قيام الليل؟ هل قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل قدم صيام النافلة؟ هل قدم الصدقات والزكاة؟ هل قدم الدعاء والذكر؟ أم ماذا قدم؟ هل قدم النوم عن الصلاة؟ هل قدم النظر إلى النساء والخلوة بهن؟ هل قدم استماع الأغاني والطرب؟ كل شيء فعله في الدنيا يراه، قال الله:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف:٤].
لا تنظر إلى صغر المعصية، لا تقل صغيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، الواحد منا اليوم إذا كان في مجمعٍ من الناس يستحي أن يعصي ربه، أمام والده يستحي أن يرتكب بعض المنكرات، أمام إخوانه، أمام شيخ المسجد، أمام بعض الصالحين يستحي من بعض المعاصي، لكن إذا لم يكن أحدٌ يراه لا يستحي من الله جل وعلا:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:١] ألا يعلم هذا الرجل وهذا العاصي بتلك العاصية أن الله عز وجل مطلع عليه فيها، أن الله يراه.
عمر بن الخطاب يتجول في الصباح الباكر فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء، قالت البنت الصغيرة: يا أماه! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد منع الناس من مذق الماء باللبن، فقالت أمها: إن أمير المؤمنين الآن لا يرانا، كل الناس يمذقون فامذقي يا بنية! فقالت البنت المؤمنة: إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}[المجادلة:٧] الله يرى ويسمع.
يا عبد الله: هل فكرت أن ترجع إلى الله؟ يا من تتوجه بيديك وقلبك إلى البشر، هلا توجهت إلى الله؟ هلا كنت صادقاً في توجهك إلى الله؟