[الدنيا ومتاعها]
أولها: الدنيا.
وانظر إلى تكالب الناس على الدنيا، يمر النبي صلى الله عليه وسلم على تيس، أو جدي أسك ميتاً -أسك: أي مقطوع الأذن- يمر عليه فيقول للناس: من يشتري هذا بدرهم؟ فيقولون: يا رسول الله! جيفة نتنة، لو كان حياً ما اشتراه أحدنا بدرهم أو درهمين، كيف وهو جيفة ميتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣] تصدنا الدنيا عن ذكر الآخرة، كان سفيان الثوري في المسجد، فقال لصاحبه: ائتني بالماء، يقول: فجئت له بإناء فيه ماء يقول: فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يده اليسرى على خده الأيسر، وأخذ ينظر إلى الماء، قال: فذهبت ونمت أول الليل، فاستيقظت على الفجر، يقول: فجئته بعد صلاة الفجر، فإذا هو على هذه الحالة، يده اليمنى على خده الأيمن واليسرى على خده الأيسر وهو في المسجد، فقلت له: يرحمك الله، ما زلت على هذه الحالة منذ أن فارقتك، قال: لا زلت أتفكر في أمر الآخرة.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:٣٦] * {رِجَالٌ} [النور:٣٧] الآن بعد صلاة العصر من يجلس إلى المغرب في المسجد من الناس؟ كان عبد الله بن المبارك بعد العصر لا يكلم أحداً، يجلس في المجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، من منا يفعلها ولو مرة في الأسبوع، ولو كان يوم جمعة؟! ومن الذي يشغلنا؟ إنها الدنيا {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:٣٦ - ٣٧] تعرف ما الذي جعلهم في المساجد بعد الفجر وبعد العصر؟ {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٧].
الإمام أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية، يرددها ويبكي طول الليل إلى الفجر، تعرف ما هذه الآية؟ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧].
إنها الدنيا يا عباد الله! حتى أنه قال يوماً لأصحابه عليه الصلاة والسلام: (ما لي وللدنيا! ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:٤٦].
الدنيا تتزين لك بصورة امرأة، وبيع وشراء، ومجالس لشرب الشاهي والقهوة إلى منتصف الليل، ثم لا صلاة فجر ولا قيام ليل، هذه هي الدنيا يا عبد الله! الدنيا أسهم، وربا، وأموال، وتجارات، هذه هي الدنيا.
يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [جاهدنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله علينا، يقول: فقلنا بيننا وبين أنفسنا بعد أن فتح الله للمسلمين: لو التفتنا إلى ضياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها].
تركوا المزارع، والضياع، تركوا البيوت، وجاهدوا في سبيل الله، فلما نصر الله دينه، قالوا: لو التفتنا إلى مزارعنا فأصلحنا ما فيها، لا تنس نصيبك من الدنيا، فإذا بالرب جل وعلا ينزل قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] أرأيت كيف صدتنا هذه الدنيا؟ فحاسب نفسك كيف تقضي وقتك، كم للدنيا وكم لله جل وعلا.
هذا الإمام أحمد ثماني عشرة سنة يلبس حذاءً واحداً، كلما تقطع النعل خصفه بيده، يرقعه بيديه رضي الله عنه ورحمه الله؛ دخل عليه ابنه عبد الله يوماً، فرآه في غرفة مظلمة متربع، مستقبل القبلة يبكي، فقال له: يا أبي! ما لك يرحمك الله؟ قال: أتفكر في أمر الآخرة، فقال له ابنه: يا أبي هلا اتكأت على الحائط، أنت رجل كبير متعب، اتكئ على الحائط قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:٦ - ٧] عبد الله! سل نفسك ما الذي غرك؟ يقول: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم) وقال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).