للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آخر أهل الجنة دخولاً

أريدك يا عبد الله في هذه الجلسة أن تتَخَيَّلْ وأن تستبشر بوعود الله جل وعلا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن ظفراً مما في الجنة بدا -لو حملنا من الجنة شيئاً بالظفر أتعرف ماذا يحصل؟ - لتزخرفت طوابق السموات والأرض).

إذا بموسى يسأل عن أدنى أهل الجنة منزلة -كما في صحيح مسلم - وهي قصة عجيبة! وخبرها عجيب! أريدك أن تستبشر يا عبد الله فهذا أدنى أهل الجنة: (يخرج من النار يكبو مرة، ويمشي مرة، وتصفعه النار مرة، حتى إذا نجا منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك) فإذا به يظن أنه لم يعطَ أحد أفضل مما أعطي هو، يظن أنه أفضل أهل الدنيا عطاءً؛ لأنه تخلص من النار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:١٨] ووالله ليس الفوز بالملايين ولا بالعمارات ولا بالعقارات ولا بالسفر إلى دول الكفر والإباحيات، لا يا عبد الله ليس الفوز بهذا، ولن تنجو بالحصول على أعلى الشهادات وأعلى المناصب والمراكز، بل الفوز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].

(فإذا به يرى شجرة من بعيد -اسمع القصة- فيسأل ربه يقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها -أنهكه الحر، ظِلُّ جهنم يا عبد الله لا بارد ولا كريم، ظِلٌّ مِن يحموم- وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول الله: عبدي! هل عسيتَ إذا أعطيتكها أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: يا ربِّ! أعاهدك أن لا أسألك غيرها -نجا من جهنم، وجلس تحت ظل شجرة، ويشرب من الماء! ماذا يريد أكثر من هذا؟! - فإذا بربنا جل وعلا برحمته يقربه من هذه الشجرة.

فإذا به ينظر إلى شجرة أخرى أجمل منها وأفضل وأحسن فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ ما أغدرك -ما أغدر ابن آدم، كلما رأى نعمة أكبر نسي عهده الذي بينه وبين الله- فإذا بالرب جل وعلا يقول: هل عسيت إن أعطيتكها ألا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك يا ربِّ! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه.

يا إخوان: الشجرة خارج الجنة، وليس له صبر عليها فكيف إذا دخل، فإذا به يقربه من الشجرة الثانية، فينظر إلى شجرة ثالثة -أين الثالثة؟ - عند باب الجنة فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك ربِّ أن لا أسألك غيرها، فيقربه الله من الشجرة الثالثة، فلما يجلس يسمع أصوات أهل الجنة) الله أكبر! أصوات ماذا يا عبد الله؟

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:٥٥] ما شغلهم وما حديثهم؟

{الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:٥٥] مع مَن؟

{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس:٥٦] مع الحور العين يا عبد الله! {حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ} [الواقعة:٢٢ - ٢٣] الواحدة كاللؤلؤة.

عبد الله! هذه اللؤلؤة لو عانقتها -كما في بعض الروايات- أربعين سنة ما تشبع، من جمالها وحسنها (على رأسها التاج، الياقوتة الواحدة فيه خير من الدنيا وما فيها، لو اطلعَت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها).

أما النساء الصالحات فهن السيدات للحور العين، وهن أجمل من الحور العين في الجنة، تَخَيَّلْ إلى منظرهن يا عبد الله: (يُرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم) ما أجملها! وما ألطفها! وما أنعمها! عبد الله! حور عين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:٥٦].

(يسمع أصواتهم فيقول: ربِّ أدخلني إياها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه) ما هناك صبر يا أخي، صبر على ماذا؟! على أصوات أهل الجنة؟! أم على رائحتها التي تشم من على بعد أربعين سنة! أم على أنهارها التي تتفجر؟! تَخَيَّلْ! نهر من لبن؟! أم نهر من خمر؟! أم نهر من عسل؟!

تَخَيَّلْ نهر العسل هل تتصوره يا عبد الله؟!

أم هل تتصور نهر اللبن؟!

أم هل تتصور الكوثر الذي ماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن؟! الآن تصور نهر أبيض من اللبن يجري، هل رأيت شيئاً أبيض من اللبن، أم هل ذقت شيئاً أحلى من العسل؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] هذا النهر يجري في الجنة.

والكوثر نهر يجري في الجنة (حافتاه قباب اللؤلؤ، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت) تَخَيَّلْ أنك تجلس على ضفاف هذا النهر مع زوجتك من الحور العين أو زوجتك الصالحة في الدنيا، تَخَيَّلْ يا عبد الله! وأنت على أرض الجنة البيضاء، كقرص نقي من المسك الأذفر.

هذه الجنة يا عبد الله ليس فيها شمس، كيف يرون؟! أم كيف ينظرون؟!

قال شيخ الإسلام: "الضوء والنور يأتيان من قِبَل عرش الرحمن" لأنه سقف الجنة.

(يقول: يا ربِّ! أدخلنيها -هذا آخر أهل الجنة دخولاً- فيقول الله جل وعلا: ادخل الجنة، فيقول: يا ربِّ! وكيف وقد أخذ الناس مآخذهم ونزلوا منازلهم؟! -أين أدخل؟! ماذا لي في الجنة يا ربِّ؟! كل شيء أخذوه في الجنة- فيقول الرب جل وعلا: تمنَّ يا عبدي، فيتمنى، والله يذكره الله: سَل كذا، فيسأل، سَل كذا، فيسأل -ويذكره الرب بكل شيء، فيسأل كل ما ذكره الله به- فيقول الله جل وعلا: لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين -أدخل آخر الناس دخولاً الجنة ولي عشرة أمثال الدنيا؟! - فيضحك عليه الصلاة والسلام، فيقول الصحابة: مِمَّ تضحك يا رسول الله؟! قال: مِن ضَحِك الله جل وعلا في عبده) ضَحِكَ الله له، ولم يُعْدَم خيراً من ربه إن ضحك.

ويضحك ربنا ضحكاً يليق بجلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] لا كضحكنا؛ لكنه ضحك يليق به جل وعلا.

(فضحك الرب جل وعلا وقال: إني لا أسخر منك، ولا أستهزئ منك؛ ولكني على ما أشاء قادر، فيدخله الرب جل وعلا فيأتي بيته فتستقبله زوجتان من الحور العين، فتقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك) هذا أدنى أهل الجنة منزلة وله مثل الدنيا عشر مرات.

يا من يتكالب على الدنيا وينسى صلاة الفجر، يا من يلهث وراء الشهوات والملذات ويترك صلاة العصر، اتركوا الدنيا (فما الدنيا في الآخرة إلاَّ كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ يرجع) خذ من الدنيا على قدر حالك، وعلى قدر ما يوصلك إلى الله جل وعلا.

أبشر يا من تخرج من بيتك لصلاة الفجر: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) نور تام يوم القيامة.

أبشر يا عبد الله، هذا أدنى أهل الجنة منزلة، كيف بمن هو أعلاها؟! (قال موسى: يا ربَِّ! -اسمع الآن إلى أعلى أهل الجنة منزلة- فأعلاهم منزلةً) أعلى أهل الجنة منزلة.

وهل تظن يا عبد الله أنك تستطيع أن تتصور كيف يكون أعلى أهل الجنة منزلة؟!

فالرب جل وعلا لم يجب موسى على هذا السؤال، وكيف يتصور موسى أعلى أهل الجنة منزلة؟ لن يستطيع.

قال: (أولئك الذين غرسْتُ كرامتهم بيدي -ما غرسَتْ كرامتهم الملائكة ولا الأنبياء، بل الله جل وعلا هو من غرس كرامتهم قال: وختمْتُ عليها، فلم تَرَ عين، ولم تسمع أذن، وما خطر على قلب بشر) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧] ما تعلم النفس ولا يخطر على القلب.

أبشر يا عبد الله، يا من حافظت على أركان الإسلام، يا من اتقيت الله جل وعلا أبشر بهذه الجنة إن كنت مستقيماً، ومت على لا إله إلا الله.

النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد الصحابة: (من قال (لا إله إلا الله) مخلصاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) أي: جاء بشروطها وأركانها، لا يقول (لا إله إلا الله) وهو يأتي المشعوذين والكهان والسحرة والكفرة، ويعتقد أن غير الله جل وعلا يعلم الغيب، ويعتقد النفع والضر في غير الله جل وعلا، أو في غير ما جعله الله سبباً للضر والنفع، فإذا به يقول (لا إله إلا الله)! فلا تنفعه (لا إله إلا الله).

قال: (أفلا أبشر الناس؟! قال: لا.

فيتكلوا) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالنا وعن حال كثير من الناس:

لم لا تصلي؟!

قال: أقول: (لا إله إلا الله).

كَذَبَ بقوله: (لا إله إلا الله).

وإذا بالحديث الآخر يقول: (مَن قال (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ أدخله الله الجنة) فإذا بالصحابة يتعجبون! -يكفي هذا الأمر- فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للمجاهد مائة درجة -للمجاهد في سبيل الله- ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض).

وكان يحث أصحابه ويقول: (إذا سألتم الله -لا تسألوا أدنى أهل الجنة منزلة- فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن).

وإذا بالصحابي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني -ماذا تريد؟ - قال: أسألك مرافقتك في الجنة) أعلى منزلة في الجنة.

أبشروا يا عباد الله! أبشروا برحمة الله جل وعلا! وأبشروا أيها الدعاة إلى الله بنصر من الله جل وعلا فإنه قادم لا محالة.

نصر الله قادم قادم، ومهما طال الليل فإن الفجر قريب، وكما قال الله جل علا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:٨١].

أقول هذا القول.

وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.