أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة:٣] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟! - جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها.
ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان يصيح جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:٩٩] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً}[النازعات:١] * {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً}[النازعات:٢].
بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن
جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائقٌ وثواني
إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟
مسكين قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح.
وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين كل هذا ذهب بلمح البصر.