ي تخذ من لحم جزور في كل يوم، فأنا منذ ذلك اليوم أنحر جزورا في كل يوم، فإن الخلفاء لانتباع لهم لحم الجزور من السوق «١» ، ولم يدع أمير المؤمنين بشيء من لحمها إلا يومه هذا. وكان الرشيد في أول طعامه، وكان أشد خلق الله تقززا، فضرب الرشيد بيده اليمنى وجهه وفيها الغمر «٢» ، ومدّ بها لحيته، ثم قال: هلكت ويلك يا هارون، واندفع يبكي، ورفعت المائدة «٣» ، وطفق يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فتهيأ للصلاة «٤» ثم أمر أن يحمل للحرمين ألفي ألف درهم يفرق في كل حرم ألف ألف، وأن يفرق في كل جانب من جانبي بغداد خمس «٥» مئة ألف درهم، وأن يفرق في كل مدينة من الكوفة والبصرة خمس مئة ألف درهم «٦» ، وقال: لعل الله أن يغفر لي هذا الذنب، وصلى الظهر وعاد إلى مكانه يبكي إلى العصر، وقام فصلى، وعاد إلى مكانه إلى أن قرب ما بين العصر والمغرب، فأخبره القاسم بن الربيع أن أبا يوسف القاضي بالباب، فأذن له، فدخل، وسلم، فلم يردّ عليه، وأقبل يقول: يا يعقوب، هلك هارون، فسأله عن القصة، فقال: يخبرك جعفر، وعاد لبكائه، فحدثه جعفر عن الجزور التي تنحر كل يوم، ومبلغ ما أنفق من الأموال، فقال له أبو يوسف:
هذه الإبل التي كانت تبتاع كانت تترك إذا نحرت حتى تفسد وتنتن، ولا تؤكل لحومها، فيرمى بها؟ قال جعفر: اللهم، لا، قال أبو يوسف: فما كان يصنع بها؟ قال: يأكلها الحشم والموالي وعيال أمير المؤمنين، فقال أبو يوسف: الله أكبر، أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله على نفقتك، وعلى ما فتح لك من الصدقة في يومك هذا، ومن البكاء للتقية من ربك، فإنّي لأرجو ألا يرضى الله من ثوابه على ما داخلك من الخوف من سخطه عليك إلا بالجنة، فإنه عز وجل يقول: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
[سورة الرحمن، الآية: ٤٦] وأنا أشهد أنك خفت مقام ربك، فسرّي عن الرشيد وطابت نفسه، ووصل أبا يوسف بأربع مئة ألف درهم، وصلى المغرب ودعا بطعامه وأكل، فكان غداؤه في اليوم عشاءه.