الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١]: وَلَمْ يُعَاهِدْهُمْ إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الْآمِرَ وَالْحَاكِمَ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَحْكَمَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ، مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ، مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ، يُؤَاخَذُونَ بِهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الْآرَاءِ، وَامْتِنَاعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ رِضَا جَمِيعِهِمْ، فَوَقَعَ الِاجْتِزَاءُ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لَزِمَ الرَّعَايَا حُكْمُهُ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ كَانَ أَثْبَتَ لِنِسْبَتِهِ إلَيْهِمْ، كَمَا نُسِبَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمُسْلِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ بِهِ رَاضِينَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ.
[مَسْأَلَة الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١]: وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُعَاهِدَ كَانَ مُشْرِكًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا مُشْرِكِينَ؟ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْعَرَبِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَكَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَجَلُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، فَأَمْهَلَ الْكُلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ خَمْسِينَ لَيْلَةً: عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: ٥].
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٤].
فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَيُحِلُّ دَمَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِحْلَالِ لِدَمِهِ بِالْكُفْرِ الْمَوْجُودِ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute