للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُبْحَانَهُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: ١١٥] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: ١١٦] يَعْنِي عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَمْثَالِهِ مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، مُقَدَّسٌ مِنْهُ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ النَّجِدَيْنِ، وَخَلَقَ لِلْقَلْبِ الْمَعْرِفَةَ وَالْحَوَاسَّ سُبُلًا لَهَا، وَالْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ يَتَنَازَعَانِ لِلْعَلَائِقِ، وَالْمَلَكُ يُعَضِّدُ الْعَقْلَ، وَالشَّيْطَانُ يَحْمِلُ الشَّهْوَةَ، وَالتَّوْفِيقُ قَرِينُ الْمَلَكِ، وَالْخِذْلَانُ قَرِينُ الشَّيْطَانِ، وَالْقَدَرُ مِنْ فَوْقِ [ذَلِكَ] يَحْمِلُ الْعَبْدَ إلَى مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْخَلْقَ فَرِيقَيْنِ

فِي أَصْلِ الْمِقْدَارِ وَكَتَبَهُمْ بِالْقَلَمِ الْأَوَّلِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ.

وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ نَشْرِ الْآثَارِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ.

[مَسْأَلَة الْغَبْنُ فِي مُعَامَلَةِ الدُّنْيَا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: ٩] عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْغَبْنُ فِي مُعَامَلَةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ التَّغَابُنَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: ٩]؛ وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى غَبْنٍ فِي مَبِيعٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَاخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ: «إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا». وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. نُكْتَتُهُ أَنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا؛ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ؛ إذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَوَجَبَ الرَّدُّ بِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>