للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ؛ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.

وَقَالَ ابْنُ خَيَّاطٍ: إنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا، وَأَيْنَ يَزِيدُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْفِرَارَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ مَا لَا يَفِي بِخَلْعِ يَزِيدَ.

وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ بَعْدَهُ فِي نِصَابِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ وَالْتَزِمُوهُ تَرْشُدُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَة قَالَ إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ]

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: ٧٥]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، إنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الطَّلَاقِ.

وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ».

وَسَرَدَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَعَانِي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا.

وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ بِطُرُقِهَا فِي كِتَابِ التَّخْلِيصِ.

وَأَمَّا أَحْمَدُ فَزَعَمَ أَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>