[الْآيَة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]
} [الأعلى: ١٥]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ حَقِيقَتُهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ، وَالضِّدَّانِ إنَّمَا يَتَضَادَّانِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ؛ فَأَوْجَبَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ اقْتَضَاهَا عُمُومًا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: ٥].
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». وَالصَّلَاةُ أُمُّ الْأَعْمَالِ، وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِي كُلِّ نِيَّةٍ بِفِعْلٍ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ؛ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ فِيهِ
بِأَوَّلِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْفَجْرِ، لِوُجُودِهِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ تَجْوِيزِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الَّذِي يَمْشِي إلَى النَّهْرِ فِي الْغُسْلِ؛ فَإِذَا وَصَلَ وَاغْتَسَلَ نَسِيَ أَنْ يُجْزِئَهُ قَالَ: فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
وَهَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: ٢٢]؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَرَى فِيهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَالْوُضُوءَ فَرْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَيُحْمَلُ الْأَصْلُ عَلَى الْفَرْعِ؟
[مَسْأَلَة الذَّكَرَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان]
. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: ١٥]. [إذَا قُلْنَا: إنَّهُ] الذِّكْرُ الثَّانِي بِاللِّسَانِ الْمُخْبِرُ عَنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ مُفْتَتَحٌ بِهِ فِي أَوَّلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كُلُّ ذِكْرٍ حَتَّى لَوْ قَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ " بَدَلَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ، بَلْ لَوْ قَالَ بَدَلَ (اللَّهُ أَكْبَرُ): بِزْرك خداي لَأَجْزَأَهُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute