فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِقَ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ»، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ.
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَاحْتَاجَ إلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَعَلَهُ وَافْتَدَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ: «أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ اهْدِ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»، وَفِي الْحَدِيثِ خِلَافٌ وَكَلَامٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصِّيَامَ هَاهُنَا مُطْلَقًا، وَقَيَّدَهُ فِي التَّمَتُّعِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي نَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهَاتَانِ نَازِلَتَانِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَدْرَ الصِّيَامِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
[مَسْأَلَةٌ جَعْلُ الْهَدْيَ نُسُكًا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُجْزِئُ [الطَّعَامِ] فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
وَقِيلَ: لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِمَكَّةَ إلَّا الْهَدْيُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الطَّعَامُ كَالْهَدْيِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْهَدْيِ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ؛ فَالطَّعَامُ الَّذِي هُوَ عِوَضُهُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَّةَ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَيَأْتِي بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِلَفْظِ النُّسُكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْبَحَ حَيْثُ شَاءَ؛ فَإِنَّ لَفْظَ النُّسُكِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.