للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْخَلْقُ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَهُمْ إلَيْهِ؟ قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؟ أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّحِيمَ الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

قُلْنَا: لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ، وَرَبُّنَا لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ، وَلَا تُحْمَلُ أَفْعَالُ الْإِلَهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ فِيهِمْ كَيْفَ أَرَادَ؛ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ، وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ؟ وَالْبَارِي مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

[مَسْأَلَة الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ صَغَى الْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِمَا أَنَّ الْكُفْرَ يَخْتَصُّ بِالْجَاحِدِ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَيْسَ بِكَافِرٍ.

وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ كُفْرُ مَنْ أَنْكَرَ أُصُولَ الْإِيمَانِ، فَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْقِعًا وَأَبْيَنِهَا مَنْصِفًا، وَأَوْقَعِهَا مَوْضِعًا الْقَوْلُ بِالْقَدَرِ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:

اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالصَّرِيحُ مِنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ، لَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: ٢٢١]. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِكُفَّارٍ، أَوْ حَكَى فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَذَلِكَ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>