تَرْهِيبٍ، وَالْإِيمَانُ مَحَلُّ تَرْغِيبٍ، فَقُوبِلَ أَهْلُ كُلِّ مَحَلٍّ مِنْ الْخِطَابِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: ٩٤]: الْبَارِي رَاءٍ مَرْئِيٌّ، يَرَى الْخَلْقَ، وَيَرَوْنَهُ، فَأَمَّا رُؤْيَتَهُمْ لَهُ فَفِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَمِنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لِلْخَلْقِ فَدَائِمَةٌ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ وَيَرَى.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ: إنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يَرَى، وَمَتَى أُخْبِرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلْمِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ رَاءٍ بِرُؤْيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَائِيًا لَكَانَ مَئُوفًا؛ لِأَنَّ الْحَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا كَانَ مَئُوفًا، وَهُوَ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ، وَهَذِهِ الْعُمْدَةُ الْعَقْلِيَّةُ لِعُلَمَائِنَا؛ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَعْتِهِ، فَلَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: ٩٤]: ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ، وَالْبَارِي يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ، وَيَرَاهُ إذَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، «عَنْ جِبْرِيلَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ؛ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: ٩٤]: مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ فِي الظُّهُورِ مَحَلَّ مَا يَرَى.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: ابْنَ آدَمَ، اعْمَلْ وَأَغْلِقْ عَلَيْك سَبْعِينَ بَابًا، يُخْرِجْ اللَّهُ عَمَلَكَ إلَى النَّاسِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ مَالِكٌ، إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ النَّاسِ، فَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَسَّرَهُ، كَمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُظْهِرهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْثِرُ الْحُجُبَ فِي رُؤْيَتِهِ، وَلَا تَمْنَعُ الْأَجْسَامَ عَنْ إدْرَاكِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute