وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ: إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: ١٤]. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَدَّةَ السُّدُسَ»؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ (أَطْعَمَ) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِنَا أَعْطَيْته، فَيَقُولُ: طَعِمَ زَيْدٌ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ، وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ». فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ. وَهَذَا بَالِغٌ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ، كَالْكِسْوَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إلَّا التَّمْلِيكُ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا.
[مَسْأَلَة دَفَعَ كَفَّارَة الْيَمِين إلَى مِسْكِينٍ وَاحِد]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا دَفَعَهَا إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ بِالْمَعْنَى. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: ٤]. فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْنَا: الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ الْفِعْلِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ، وَكَذَلِكَ هُنَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، بِخِلَافِ مَفْعُولَيْ ظَنَنْت، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute