فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ، فَقَالَ: وَيْحُك، ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك مِائَةَ جَلْدَةٍ. فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ، وَقَدْ كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا، فَبَاعَتْ ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ، فَقَالَ مَا قَالَ.
[مَسْأَلَة حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا:
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا بِالنَّكَرَةِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: ٤٨].
قَالَ الْقَاضِي: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، وَعِمَادُ الْأَعْمَالِ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ.
وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ جَلَدْتُك. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ التَّأْوِيلِ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ الدَّلِيلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute