فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ، كَمَا يُقَالُ سَرْجُ الدَّابَّةِ وَبَابُ الدَّارِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَيْهَا، إضَافَةَ مَحَلٍّ لَا إضَافَةَ تَمْلِيكٍ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْمِلْكُ وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا التَّمْلِيكُ؛ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَصَحَّ أَنْ يَمْلِكَ وَيُمَلَّكَ، وَجَازَ أَنْ يَقْدِرَ وَيُقْدَرَ.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِرَأْيِهِمْ الْمُفْسِدُ لِكَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ جَازَ، فَنَقُولُ: مَنْ مَلَكَ الْأَبْضَاعَ مَلَكَ الْمَتَاعَ كَالْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُضْعَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَالِ، فَإِذَا مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْإِذْنِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالْإِذْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ لَهُ النِّكَاحُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَشْتَهِي طَبْعًا؛ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ اسْتِيفَاءَ شَهْوَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ لَأَضْرَرْنَا بِهِ، وَلَوْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى اقْتِضَائِهَا بِصِفَةِ الْبَهَائِمِ، لَعَطَّلْنَا التَّكْلِيفَ؛ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لَهُ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، وَيَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَهَذِهِ عُمْدَتُهُمْ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا عُلَمَاؤُنَا بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ؛ عُمْدَتُهَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ الْفُرُوجَ، وَإِنَّمَا إبَاحَتُهَا فِي الْأَصْلِ طَلَبًا لِلنَّسْلِ بِتَكْثِيرِ الْخَلْقِ، وَتَنْفِيذًا لِلْوَعْدِ؛ فَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وُضِعَتْ إبَاحَتُهَا، وَشُرِعَ النِّكَاحُ لِاسْتِبْقَائِهَا.
فَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أُبِيحَتْ ضَرُورَةً غَلَطٌ. وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ لَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْصِمُهُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تُبَلِّغُوهُ إلَى أَرْبَعٍ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَاقِضُ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى مَا بَسَطُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُنَاقِضُهَا إذَا تَقَابَلَتَا بِالْبُدَاءَةِ. فَأَمَّا إذْ كَانَ الْحَجْرُ طَارِئًا بِالرِّقِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ بِالْحَيَاةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute