للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: ١١]، فَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ {طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨] يُفِيدُ التَّطْهِيرَ.

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». وَأَرَادُوا مُطَهَّرَةً بِالتَّيَمُّمِ، وَلَمْ يُرِدْ طَاهِرَةً بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ طَاهِرَةً. وَقَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الطَّهُورِ الْمُطَهَّرَ لَمَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ.

وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ " طَهُورٍ " مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهَّرُ.

فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِوَصْفِ اللَّهِ لِشَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَالْجَنَّةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّفَةِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ التَّطْهِيرُ.

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ وَصْفَ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ، وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ، كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ طَهَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَحْضِ الذُّنُوبِ، وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَةِ التَّسْلِيمِ.

وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: ٧٣]، كَمَا حَكَمَ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي الْأُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

رِيقُهُنَّ طَهُورُ

فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَهُوَ لَا يُطَهِّرُ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ، أَرَادَ أَنَّهُ لِعُذُوبَتِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْحُبِّ بِرَشْفِهِ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>