الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ هِبَتِهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّك.
الثَّانِي أَنَّهُ «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَقَالَ: عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا، وَحِزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَعَجِبَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَجِبَتْ أُمَّتُك مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١] وَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْت أَنْتَ وَأُمَّتُك مِنْهُ. قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».
الثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ: سَمِعْت مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».
قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ، وَلَقَدْ أُعْطِيت أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَمْ تُعْطَهُ أُمَّةٌ فِي طُولِ عُمُرِهَا، فَأَوَّلُهَا أَنْ كُتِبَ لَهَا خَمْسُونَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَكُتِبَ لَهَا صَوْمُ سَنَةٍ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، بَلْ صَوْمُ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الصَّحِيحِ، وَطُهِّرَ مَالُهَا بِرُبْعِ الْعُشْرِ، وَأُعْطِيَتْ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ يَعْنِي عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكُتِبَ لَهَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ. فَهَذِهِ لَيْلَةٌ وَنِصْفٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ.
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطُوا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ وَهَذَا فَضْلٌ [لَا يُوَازِيهِ فَضْلٌ]، وَمِنَّةٌ لَا يُقَابِلُهَا شُكْرٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute