كَانَ أَمِينًا حَرِيصًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَخُونُ وَهُوَ يَأْخُذُ مَا أَحَبَّ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ سَهْمُ الصَّفِيِّ؛ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَرَادَ، ثُمَّ يَأْخُذَ الْخُمُسَ وَتَكُونَ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ كَرَامَةَ أَخْلَاقٍ وَطَهَارَةَ أَعْرَاقٍ، فَكَيْفَ مَعَ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَعِصْمَةِ الرِّسَالَةِ. وَمَنْ قَرَأَ يُغَلَّ بِنَصْبِ الْغَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: يُوجَدُ غَالًّا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ فُلَانًا.
الثَّانِي: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا تُلِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَسَّرَ بِهَذَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ. فَقَالَ: نَعَمْ وَيَقْتُلُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ فَإِنْ بَاعَهُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّفْسِيرِ لَا يَبُوعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ وُجُودًا، إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ شَرْعًا، نَعَمْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ فُجُورًا وَتَعَدِّيًا، وَخَصَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ، وَلَكِنْ هُوَ أَعْظَمُ حُرْمَةً.
الثَّالِثُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُتَّهَمَ فَإِنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ وَجَاءَهُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ، وَخَصَّصْنَاهُ بِرِسَالَةٍ سَمَّيْنَاهَا بِكِتَابِ " تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ " وَسَنَذْكُرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَلَا يُعْلَمُ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا خَانَهُ أَحَدٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هُوَ فِي النَّارِ» فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غَلَّ عَبَاءَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute