وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَسْقُطُ، فَوُجُوبُهُ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْقِصَاصِ مِنْ الْعُدْوَانِ وَشَرْطُهُ مِنْ الْمُكَافَآتِ، وَيَسْقُطُ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: يَنْتَقِلُ الْقِصَاصُ إلَى غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا لَانْتَقَلَ الْمِيرَاثُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قُتِلَ بِهِ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا لَمْ يُتْرَكْ وَفَاءً قُتِلَ بِهِ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا تُرِكَ وَفَاءً لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاتَ عَبْدًا وَالْقِصَاصُ لِسَيِّدِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاتَ حُرًّا وَيُدْفَعُ مِنْ مَالِهِ كِتَابَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَيَرِثُ مَالَهُ بَقِيَّةُ وَرَثَتِهِ، وَيَرِثُونَ قِصَاصَهُ، فَانْتَصَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ شُبْهَةً فِي دَرْكِ الْقِصَاصِ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيجَابَ حُكْمٌ، وَالِاسْتِيفَاءُ حُكْمٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لَهُ، وَأَسْبَابُهُمَا تَخْتَلِفُ؛ وَإِذَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَاخْتَلَفَا ذَاتًا كَيْفَ يَصِحُّ لِمُحِقٍّ أَنْ يُنْكِرَ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ؟ بَلْ هُنَالِكَ أَغْرُبُ مِنْ هَذَا؛ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمٌ وَالِاسْتِقْرَارُ حُكْمٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ؛ إذْ يَتَطَرَّقُ السُّقُوطُ إلَى جَمِيعِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِالرِّدَّةِ، وَإِلَى نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ.
وَقَدْ انْبَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ، إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَاشِيَةً وَغَيْرَهَا؛ فَإِذَا كَانَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ وَصْفُ الْوُجُوبِ حُكْمًا انْفَرَدَ عَنْ الْوُجُوبِ بِانْفِرَادِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُهُ أَصْلًا وَصِفَةً فَذَلِكَ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: مَنْ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ؟ وَلِمَنْ وَجَبَ؟ فَيُقَالُ لَهُ: نَقَصَكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ عَدَلْتَ عَنْهُ أَوْ تَعَمَّدْتَ تَرْكَهُ تَلْبِيسًا: وَهُوَ أَنْ يَجِبَ لِلْأَمَةِ وَهِيَ الزَّوْجُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لَهَا. فَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ الْأَمَةُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلتَّمْلِيكِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ؛ بَلْ الْعَبْدُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute