وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا تَوَاجَبَا بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَرَاضَيَا، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالصَّحَابَةُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: إلَّا تِجَارَةً تَعَاقَدْتُمُوهَا وَافْتَرَقْتُمْ بِأَبْدَانِكُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فِيهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى إنَّمَا يَدُلُّ مُطْلَقُ الْآيَةِ عَلَى التِّجَارَةِ عَلَى الرِّضَا، وَذَلِكَ يَنْقَضِي بِالْعَقْدِ، وَيَنْقَطِعُ بِالتَّوَاجُبِ، وَبَقَاءِ التَّخَايُرِ فِي الْمَجْلِسِ لَا تَشْهَدُ لَهُ الْآيَةُ لَا نُطْقًا وَلَا تَنْبِيهًا، وَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُدَايِنَةِ وَالْمُعَامَلَةِ إنَّمَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا ذِكْرَ لِلْمَجْلِسِ فِيهَا وَلَا لِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْهَا؛ كَقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١]؛ فَإِذَا عَقَدَ وَلَمْ يُبْرِمْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ، وَإِذَا عَقَدَ وَرَجَعَ عَنْ عَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ فَرْقٌ، بَلْ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَلَا الْتَزَمَ وَلَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ، فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَتَقَدَّمَ الْعُذْرُ، وَإِذَا عَقَدَ وَحَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كَلَامُهُ تَعَبًا وَلَغْوًا، وَمَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِلِسَانِهِ عَنْ عَقْدِهِ وَرِضَاهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: ٢٨٢]، فَإِذَا أَمْلَى وَكَتَبَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَمَحَا مَا كَتَبَ كَانَ تَلَاعُبًا وَفَسْخًا لِعَقْدٍ آخَرَ قَدْ تَقَرَّرَ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: ٢٨٢]، وَإِذَا حَلَّهُ فَقَدْ بَخَسَهُ كُلَّهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢]، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَشْهَدُونَ؟ وَلَمْ يَلْزَمْ عَقْدٌ وَلَا انْبَرَمَ أَمْرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: ٢٨٢] يَلْزَمُ مِنْهُ مَا لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: ٢٨٢]. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] فَيُضِيفُ عَقْدًا إلَى غَيْرِ عَقْدٍ، وَيَرْتَهِنُ إلَى غَيْرِ وَاجِبٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute