والْمَسْأَلَةُ تَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَنْقِيحٍ، وَقَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُشِيرُ إلَيْهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ: لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ؛ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهَا رَجَّحْنَا احْتِمَالَاتِهَا حَتَّى نَرَى الْفَضْلَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا؛ فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْعُبُورَ لَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ؛ وَأَحْسَنُهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ الصَّلَاةُ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَذْفٍ كَثِيرٍ وَتَأْوِيلٍ طَوِيلٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: ٤٣].
قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَأَوَّلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: ٤٣] يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: ٤٣].
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنَّ أَوَّلَ مَا يُحْفَظُ سَبَبُ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَتُحْفَظُ فَاتِحَتُهَا فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، حَتَّى نَرَى مَا يَرُدُّنَا عَنْهَا وَيَحْفَظُ لُغَتَهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَقْرَبُوهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمَكَانِ، فَكَيْفَ يُضْمَرُ الْمَكَانُ وَيُوصَلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ؟ هَذَا مُحَالٌ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: لَا تُصَلُّوا سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْعُبُورُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ؟ قُلْنَا: بِأَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ بِالتَّيَمُّمِ جُنُبًا، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يُسَمَّى الْمُسَافِرُ عَابِرِي سَبِيلٍ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ عَابِرُ سَبِيلٍ حَقِيقَةً وَاسْمًا، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا سَبِيلٌ تُعْبَرُ. وَفِي الْآثَارِ: " الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا ". وَقَدْ اتَّفَقُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute