حَقِيقَةُ اللَّمْسِ إلْصَاقُ الْجَارِحَةِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ عُرِفَ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا آلَتُهُ الْغَالِبَةُ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ.
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: اللَّمْسُ هُنَا الْجِمَاعُ. وَقَالَتْ أُخْرَى: هُوَ اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا؛ فَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَمَسْتُمْ: وَطِئْتُمْ، وَلَامَسْتُمْ: قَبَّلْتُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ، وَاَلَّذِي يَكُونُ بِقَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمَرْأَةِ هُوَ التَّقْبِيلُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَا عَمَلَ لَهَا فِيهِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْمُلَامَسَةُ الْجِمَاعُ، وَاللَّمْسُ لِسَائِرِ الْجَسَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِقْرَاءٌ لَا نَقْلَ فِيهِ عَنْ الْعَرَبِ.
وَحَقِيقَةُ النَّقْلِ أَنَّهُ كُلَّهُ سَوَاءٌ؛ (وَإِنْ لَمَسْتُمْ) مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ: لَامَسْتُمْ، وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِفِعْلِ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعِفُّ: كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ، فَمَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ خَالَفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَجَعَلْنَا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ حُكْمَهَا، وَجَعَلْنَاهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ ذَلِكَ وَلَا تَعَارَضَ؛ وَهَذَا تَمْهِيدُ الْمَسْأَلَةِ. وَيُكْمِلُهُ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا جُنُبًا} [النساء: ٤٣] أَفَادَ الْجِمَاعَ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: ٤٣] أَفَادَ الْحَدَثَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: ٤٣] أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ؛ فَصَارَتْ ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِعْلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعَ لَكَانَ تَكْرَارًا، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَنَابَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ ذَكَرَ سَبَبَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ لِلْجِمَاعِ؛ لِيُفِيدَ أَيْضًا بَيَانَ حُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ. قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَيْنِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute