وَقَدْ تَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إلَى تَفْصِيلٍ؛ هَذَا أَصْلُهَا الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ، وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ إلَّا فَرْضٌ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ. وَتَعَلَّقُوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ».
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ مُبَاحٍ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: ١٠١] وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ، حَتَّى فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ، بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ بِعَيْنِهِ. وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِهَا».
السَّادِسُ: أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ قَالَتْ: أَتِمُّوا، فَقَالُوا لَهَا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ. قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي حَرْبٍ، وَكَانَ يَخَافُ؛ فَهَلْ تَخَافُونَ أَنْتُمْ؟
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَمْ يَخُصَّ مِنْهَا وَاجِبًا مِنْ نَدْبٍ، «وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهَا».
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا تَقْصُرْ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَقْضِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ قُرْبَةً مِنْ مُبَاحٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الصَّحِيحُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute