وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ عُكْلًا وَعُرَيْنَةَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَفْسَدُوا، وَلَكِنْ يَبْعُدُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَسْقُطُ قَبْلَهَا، وَقَدْ قِيلَ لِلْكُفَّارِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: ٣٤].
وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ، وَفِي الْآيَةِ النَّفْيُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى، وَفِيهَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ وَلَا رِجْلٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَا الْمُرْتَدُّونَ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَقْوَى؛ وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْعُرَنِيِّينَ مِنْ سَمْلِ الْأَعْيُنِ، وَقَطْعِ الْأَيْدِي. قُلْنَا: ذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ فَاعِلُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ حَرْبِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ؛ وَالْمُرْتَدُّ يَلْزَمُ اسْتِتَابَتُهُ، وَعِنْدَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُقْتَلُ. قُلْنَا: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَالْأُخْرَى: لَا يُسْتَتَابُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ. وَقِيلَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِتَابَةَ هَؤُلَاءِ لِمَا أَحْدَثُوا مِنْ الْقَتْلِ وَالْمُثْلَةِ وَالْحَرْبِ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ الَّذِي يَرْتَابُ فَيَسْتَرِيبُ بِهِ وَيُرْشَدُ، وَيُبَيَّنُ لَهُ الْمُشْكِلُ، وَتُجْلَى لَهُ الشُّبْهَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: ٣٣]؛ وَتِلْكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute