الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَسَاقِطٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ مُجَاهَرَةً مُغَالَبَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْحَشُ فِي الْحِرَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَقَدْ كُنْت أَيَّامَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ قَدْ رُفِعَ إلَيَّ قَوْمٌ خَرَجُوا مُحَارِبِينَ إلَى رُفْقَةٍ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ امْرَأَةً مُغَالَبَةً عَلَى نَفْسِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِيهَا فَاحْتَمَلُوهَا، ثُمَّ جَدَّ فِيهِمْ الطَّلَبُ فَأُخِذُوا وَجِيءَ بِهِمْ، فَسَأَلْتُ مَنْ كَانَ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمُفْتِينَ، فَقَالُوا: لَيْسُوا مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّ الْحِرَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْفُرُوجِ. فَقُلْت لَهُمْ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهمْ وَلَا يُحْرَبُ الْمَرْءُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَالَ اللَّهُ عُقُوبَةٌ لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ، وَحَسْبُكُمْ مِنْ بَلَاءٍ صُحْبَةُ الْجُهَّالِ، وَخُصُوصًا فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَوَاءٌ فِي الْمِصْرِ وَالْبَيْدَاءِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْبَيْدَاءِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ لِعَدِمِ الْغَوْثِ فِي الْبَيْدَاءِ وَإِمْكَانِهِ فِي الْمِصْرِ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْحِرَابَةَ عَامَّةٌ فِي الْمِصْرِ وَالْقَفْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْحَشَ مِنْ بَعْضٍ، وَلَكِنَّ اسْمَ الْحِرَابَةِ يَتَنَاوَلُهَا، وَمَعْنَى الْحِرَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضًا مَنْ فِي الْمِصْرِ لَقُتِلَ بِالسَّيْفِ وَيُؤْخَذُ فِيهِ بِأَشَدِّ ذَلِكَ لَا بِأَيْسَرِهِ فَإِنَّهُ سَلَبَ غِيلَةً، وَفِعْلُ الْغِيلَةِ أَقْبَحُ مِنْ فِعْلِ الظَّاهِرَةِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَفْوُ فِي قَتْلِ الْمُجَاهَرَةِ، فَكَانَ قِصَاصًا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَكَانَ حَدًّا؛ فَتَحَرَّرَ أَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute