قُلْت: لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ. أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ، وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ اثْنَانِ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا، وَهُمَا اثْنَانِ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ، فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ، لَا سِيَّمَا وَالتَّثْنِيَةُ جَمْعٌ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ رَجُلَانِ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: قُلُوبُهُمَا فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ لَك عَدَدَ قَلْبٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ مَرَّتَيْنِ
ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا أَرَدْت بِهِ التَّثْنِيَةَ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: وَضَعَا رِحَالَهُمَا، وَتُرِيدُ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ الرَّابِعِ، وَيَشْتَرِكُ الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ يَدَانِ، فَهِيَ أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ جَسَدٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ وَتَتَبَاعَدُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ فِي الْخَامِسِ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فَاقْطَعُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute