وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ: إنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: فَهَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ؟ فَأَمَّا «حَظُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ».
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ: فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ جَمَاعَةٌ، قَالُوا: «إنَّ عُمَرَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَصَبْت مَالًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ مِنْهُ يَعْنِي بِسَمْعٍ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْبِسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَاتِ». وَأَشَارَ بِهِ إلَى الصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ صَدَقَةً فَبِيعَ لَانْقَطَعَ أَجْرُهُ فِي الْحَبْسِ؛ وَكَتَبَ عُمَرُ فِي شَرْطِهِ: " هَذَا مَا تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ وَلَا تُوهَبُ، لِلْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا ". وَجَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذِهِ أُمَّهَاتُهَا.
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفُسِهَا عَنْهَا. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ نَقَلُوا الْمِلْكَ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَالْمِلْكُ قَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ الْأَيْدِي تَتَبَادَلُ فِيهِ بِوُجُوهٍ شَرْعِيَّةٍ، أَوْ تَبْطُلُ فِي الْأَعْيَانِ بِمَعَانٍ قَرِيبَةٍ، كَالْعِتْقِ وَالْهَدْيِ؛ فَأَمَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِدْعَةٌ.
قُلْنَا: بَلْ سُنَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute