للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ:

وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " شَهِدَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُعْلَمُ بِدَرْكِ الْحَوَاسِّ، كَمَا أَنَّ " غَيَّبَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا لَمْ يُدْرَكْ بِهَا وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَمَعْنَى شَهِدْت: أَدْرَكْت بِحَوَاسِّي، أَيْ عَلِمْت بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ طُرُقًا لِعِلْمِي، ثُمَّ يُنْقَلُ مَجَازًا إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ، فَمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ: عَلِمَ مُشَاهَدَةً، وَأَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُحَدِّثِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَعْلَمُ لَكُمْ مَا يُشَاهِدُ مِنْ عَقْدِكُمْ.

وَقَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ عَلِمَ وَأَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ، وَبَيَّنَ مَا عَلِمَ لَنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَهُ. فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ، فَيَرْجِعُ إلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُخْبِرُ عَنْهُ، لِارْتِبَاطِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ. وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ، وَقَرَنَ بِخَبَرِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: ١٠٦] يُرِيدُ مَا عَلِمْنَاهُ وَعَلِمَهُ اللَّهُ مَعَنَا، فَإِنْ صَدَقَ وَإِلَّا كَانَ خَبَرُهُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ كَذِبًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ، وَالصَّادِقُ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْكَذِبِ.

وَأَمَّا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى فَلَا مَعْنَى لَهُ إلَّا عَلَى بُعْدٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا بِمَعْنَى حَلَفَ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى حَضَرَ لِلتَّحَمُّلِ. وَالثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. تَقُولُ: أَشْهَدُ عِنْدَك، أَيْ حَضَرْت لِأُؤَدِّيَ عِنْدَك مَا عَلِمْت، وَأَدَاؤُهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ بَعِيدٌ لَا دَرْكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِمَعْنَاهُ، وَلَا يُجْزِي غَيْرُهُ عَنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بَيْنِكُمْ} [المائدة: ١٠٦]

قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنِكُمْ، فَحُذِفَتْ مَا، وَأُضِيفَتْ الشَّهَادَةُ إلَى الظَّرْفِ، اُسْتُعْمِلَ الْبَيْنُ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: ٣٣]. وَأَنْشَدُوا:

تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْت لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي غَيْبُ عَيْنَيْك مُنْزَوِي

<<  <  ج: ص:  >  >>