الْمُدَّعِي ذَلِكَ قِبَلَهُ إلَّا بِيَمِينٍ؛ فَإِنَّ نَقْلَ الْيَمِينِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَثَرَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي أَيْمَانِهِمَا بِإِثْمٍ، وَظَهَرَ عَلَى كَذِبِهِمَا فِي ذَلِكَ بِمَا ادَّعَوْا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُمَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ ظَهَرَتْ فِي أَدَاءِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ حَلَفَا مَعَ الشَّهَادَةِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُمَا ادَّعَيَا بَيْعَ الْجَامِ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَدَّيَا التَّرِكَةَ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا، وَانْقَلَبَا عَلَى سَتْرٍ وَسَلَامَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْجَامِ؛ إمَّا بِأَنَّهُ وُجِدَ يُبَاعُ، وَإِمَّا بِتَحَرُّجِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَتَأَثُّمِهِ وَأَدَائِهِ مَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ.
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ رِوَايَةٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ عَضَّدَتْهَا صِيغَةُ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسَرَدُوهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ مِنْهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ.
أَمَّا إنَّهُ إذَا فَسَّرْت الْكَلَامَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاحْتَجْت إلَى تَجْوِيزٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ فَهُوَ أَرْجَحُ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْأُصُولِ فِيهِ أَقَلَّ فَهُوَ أَرْجَحُ، كَتَأْوِيلٍ فِيهِ إجَازَةُ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَإِحْلَافُ الشَّاهِدِ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَرْجَحُ، وَلَا يَسْلَمُ تَأْوِيلٌ مِنْ اعْتِرَاضٍ؛ فَإِنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَحْكَامِ جَاءَ عَلَى صِفَةٍ غَرِيبَةٍ وَهُوَ سِيَاقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْقِصَّةِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِانْتِقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة: ١٠٧].
وَرُبَّمَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا، فَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى: {فَآخَرَانِ} [المائدة: ١٠٧] خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنْ الْعَدَدِ فِي الْقِصَّةِ، وَالْوَاحِدُ كَالِاثْنَيْنِ فِيهَا؛ فَيَطْلُبُ النَّاظِرُ مَخْرَجًا أَوْ تَأْوِيلًا لِلَّفْظِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيُدْخِلُ الْإِشْكَالَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَلَا يُسَاحَلُ عَنْ هَذَا الْبَحْرِ أَبَدًا؛ وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مِنْ التَّعْدِيدِ لَا يُمْنَعُ مِنْ كَوْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute