الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ؛ وَإِنْ تَابَ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ. وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّهَا حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِفُلَانَةَ.
وَنَصُّ الْحَادِثَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَاغِي أَبَا بَكْرَةَ وَيُنَافِرُهُ، وَكَانَا بِالْبَصْرَةِ مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، وَكَانَا فِي مَشْرُبَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ فِي دَارَيْهِمَا، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُوَّةٌ تُقَابِلُ الْأُخْرَى، فَاجْتَمَعَ إلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرُبَتِهِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ، فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَصْفِقَهُ، فَبَصَرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتْ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ فِي مَشْرُبَتِهِ وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ قَدْ تَوَسَّطَهَا، فَقَالَ لِلنَّفَرِ: قُومُوا فَانْظُرُوا، ثُمَّ اشْهَدُوا؛ فَقَامُوا فَنَظَرُوا، فَقَالُوا: وَمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَرْقَمِ. وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ غَاشِيَةً لِلْمُغِيرَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى الصَّلَاةِ حَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ بِنَا، فَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute