للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سلاح يقتل ويفرق الجمع، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم.

(فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي فمن شرب منه متزودًا مستجمًا حوله مستبردًا بمائه مستمتعًا به مستنيما إلى الراحة بجواره (فَلَيْسَ مِنِّي) أي فليس في قيادتي، بل هو خارِج على طاعتي، وليس معنا في هذا الجهاد المتعب في أوله، والمثمر في آخره؛ (ومن لَّمْ يَطْعَمْهُ) أي لم يذقه (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غرْفَةً بِيَدِهِ) أي أنه لم يذق من ماء النهر إلا بقدر اغترافه بيده ما يبل عطشه، وينقع غلته، ويدفع حاجته العاجلة من الماء أي فمن لم ينل من ماء النهر إلا بهذا القدر (فَإِنَّهُ مِنِي) أي معي في جندي، وهو في سلطان قيادتي، وله معي غب النصرة وفخار الانتصار.

والاغتراف هو الأخذ من الشيء باليد، والغرفة مقدار الماء الذي يغترف باليد.

وهنا بحث لفظي نبه إليه الزمخشري، وهو تقديم جواب الشرط على الاستثناء من الشرط، فقد قال: (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) وكان التأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني) ولكن النص السامي جاء بتقديم الجواب على مستثنى الشرط لحكمة بليغة، وهي المسارعة إلى الحكم بالاتصال؛ وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم ألا ينالوا من الماء، ثم رخص لهم في الغرفة بيد لنقع الغلة، وذلك ليقللوا ما كان في طاقتهم التقليل؛ لأنهم إن استرسلوا في أخذ الماء لَا يقفوا عند القليل، بل ينالوا منه الكثير.

(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهمْ) لم تكن نتيجة ذلك الامتحان الذي اختبرت فيه حكمتهم، وطاعتهم، وعزيمتهم تتفق مع رغبتهم في العزة بدل الذلة، فلم ينظروا إلى المآل بدل الحال، لم يصبروا على التعب الوقتي بالعطش ليفاجئوا عدوهم في عقر داره، وما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولم يطيعوا قائدهم الحكيم، والطاعة أساس الجندية؛ ولم يستحصدوا بعزائمهم فلا يستنيموا إلى الراحة قبل وقتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>