نهى في هذا النص الكريم عن الغلو في الدين، والغلو هو تجاوز الحد سلبا أو إيجابا، وقد تجاوز اليهود الحد في شأن عيسى - عليه السلام -، فأنكروا رسالته لعنة الله عليهم، واتهموا أمه البتول، وغالى فيه النصارى، حتى أخرجوهُ من مرتبة البشرية مع أن البشرية واضحة فيه، وفي ولادته، وفي حياته، وفي كونه لحما ودما يحيا ويموت، ويأكل ويشرب، كما يأكل سائر البشر، وإذا كان الغلو في شأن عيسى وقع من اليهود، ومن النصارى، فإنه يصح أن يكون الخطاب موجها إلى الفريقين، باعتبار أن الغلو وقع مستمرا، فيكون النهي عن الاستمرار، ولكن سياق القول يدل على أن أهل الكتاب المخاطبين في هذه الآية هم النصارى لأنه سبحانه وتعالى يقول:(إِنَّمَا الْمَسِيح عيسَى ابْن مَرْيمَ رسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا) إلى آخره، فالسياق في خطاب النصارى ومغالاة اليهود بشأن عيسى قد سبق بيانها آنفا.
ولقد أردف الله سبحانه النهي عن المغالاة بتجاوز الحق، وبالأمر بالحق، فقال تعالى:(وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
أي لَا تقولوا يا معشر النصارى على الله إلا الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، لَا على الوهم البعيد، وفي هذا النص السامي إشارات إلى معان، فإن أقوالهم التي قالوها غير الحق هي افتراء وكذب على الله تعالى، وكذلك عدى القول فقال على الله؛ لأن القول يتضمن معنى الافتراء، وفوق ذلك إنها لَا تعتمد على الحق الثابت، وتناقض الدليل الواضح، والبرهان القاطع قائم في أن عيسى ولد، والإله لَا يولد، وعيسى كان يأكل ويشرب، والإله ليس كذلك، وقد زعموا أنهم قتلوه، والإله لَا يُقتل، وزعموا أنه قتل افتداء للخليقة عن عصيان آدم لله تعالى، وليس من المعقول في أي منطق أن يفتدي الله الخليقة عن عصيان أبيها بتمكينهم من قتل ابنه في زعمهم، فإن ذلك القتل جريمة أشد وأشنع، وإذا كانت الأولى تحتاج إلى فداء، فالثانية لَا يغني عنها فداء، ولكن هكذا سوغ الوهم لهم.