فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، ومناسبته للسؤال الأول أنهم كانوا يتخذون من الخمر والميسر طريقا لتسخية نفوس الأشحة على الخير الذين لَا يجودون من تلقاء أنفسهم، فكان السؤال عن الإنفاق على البر، عقب السؤال عن الأمر الآثم الذي كانوا يحسبونه برا وهو إثم لَا بر فيه. وفي الإجابة عن هذا السؤال بيان طريق العطاء المنظم المعلوم الخالي من الإثم، بدل العطاء المجهول غير المنتظم للتأشب بالإثم الذي أحاط به. والعفو معناه: السهل، أو الزائد فإن كلمة عفو لها ثلاثة إطلاقات أولها الترك، كما قال تعالى:(عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. . .)، أي تركه وتجاوز عنه، وبمعنى السهل، كما قوله تعالى:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). وبمعنى الزيادة. والمعنى هنا السهل الزائد عن الحاجة. سألوا عما ينفقون من مال في البر، فقال لنبيه (قُلِ الْعَفْوَ) أي السهل الزائد عن حاجتكم الأصلية الذي لَا يشق عليكم بذله، إن استقامت النفوس، وامتلأت القلوب بالإيمان، وعمرت بالرحمة وأجابت نداء الرحمن. والعفو يشمل الزكاة المفروضة؛ لأنها ليست إلا فضلا قليلا من المال، كما يشمل صدقة التطوع، وكما يشمل الصدقات التي يتعين أداؤها إذا كان شخص في مخمصة ولا يدفع غائلة الجوع إلا شخص واحد يعرفه، ولا يعرفه سواه، فإنه يتعين عليه الأداء، وأنه في وقت الحاجات يفيض الغنى على الفقير بكل ما يسد حاجته. ولقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لَا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لَا حق لأحد منا في فضل (١).
(١) رواه مسلم: كتاب اللقطة (٣٢٥٨) واللفظ له، وأبو داود: الزكاة (١٤١٦)، وأحمد: باقي المكثرين (١٩٨٦٣).