للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(سَلْ بَنِي إِسْرَائلَ كمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَة) وإذا كان المشركون قد كفروا مع البينات وطلبوا ملائكة ينزلون من السماء، أو كتابًا في قرطاس يقرءونه، فليس ذلك لنقص في الدليل؛ أو لأنه عقلي ويريدون حسيا؛ بل الكفر غشاوة تكون على قلب الكافر تجعله ينكر الحق، ولو كان مع الحق ألف دليل؛ وهذا أمر بني إسرائيل: نزلت عليهم عدة آيات، ومع ذلك قالوا أرنا الله جهرة؛ ولذا قال سبحانه: (سَلْ بَنِي إِسْرَائلَ) سل الحاضرين منهم أو استقر أخبار السابقين وسل تاريخهم: (كَمْ آتَيْنَاهم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَة) من معجزة واضحة مثبتة إثباتا لَا مجال للشك فيه، ولا إثارة الريب حوله؛ فيد موسى تنقلب بيضاء من غير سوء، وعصاه تنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فتفلقه اثني عشر طريقا، وتضرب الحجر فينبجس منه اثنتا عشرة عينا، وتظلهم الغمام في الحر، وينزل عليهم المن والسلوى؛ ومع كل هذه الآيات البينات قالوا: أرنا الله جهرة، ومنهم من كفر وعبد العجل؛ فقوة الدليل لَا تحمل الجاحد على الإيمان، ومن كفر لَا يكفر عن نقص في الدليل، ولكن عن فساد في الفكر، بسبب غشاوة على القلب وضلال في النفس؛ وقوة الدليل مع هذه الحال لَا تزيده إلا عنادا وإصرارا.

(وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) نعمة الله هنا عامة تشمل نعمه الظاهرة والباطنة؛ فتشمل نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، كما تشمل نعمة العقل، ونعمة الهداية بإرسال الرسل وإقامة الأدلة على رسالتهم؛ ومن يبدل هذه النعم السابغة فيجعلها حجة عليه تؤدي إلى العقاب، فلا يبذل جهده في مرضاة الله، بل في معصيته، ولا يبذل ماله في النفع بل في الضرر، ولا يبذل جاهه لإعانة الضعيف، بل لحيف الشريف؛ ولا يعمل عقله ليصل إلى الحق؛ بل ليضل نفسه؛ ولا يقبل الهداية بل يردها؛ ومن يبدل نعمة الله ذلك التبديل، فإنه سبحانه وتعالى سيعاقبه لَا محالة؛ ولذلك قال (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) والكلام فيه حذف، إذ حذف السبب، اكتفاء بذكر المسبب، كما تذكر المقدمة ولا تذكر النتيجة لأنها مفهومة ضمنا؛ والمعنى: من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدًا، لأنه سبحانه شديد العقاب، كما أنه عفو غفور، تواب رحيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>