للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللَّه لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

" الباء " هنا باء السببية، و " ما " زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى: بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لئنا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمُتَهُم، ولا عنَّفْتَهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي يُيئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البِشْر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لَا يعنتهم ولا يبهظهم (١)، وحسبُهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمِع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حولِكَ).

وهذا النص الكريم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن (لو) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى أنك لست فظا ولا غليظ


(١) بهَظَه الحِمل: أثقله وعجز عنه، فهو مبهوظ، وأمر باهظ: أي شاق. الصحاح - بهظ.

<<  <  ج: ص:  >  >>