للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هو ما يصوره الضعف والاستخذاء، واستمراء الذلة والضعة والهوان. ولأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان.

فهذا قول الذين عصوا وذلوا، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانًا قاطعًا جازمًا لَا شك فيه، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن لسببين:

أحدهما: أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس.

وثانيهما: أن الظن يتضمن معنى الرجاء، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيًا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

ووصف أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، بيان للباعث القوي الدافع للرضا بالفداء، والصبر على البلاء، وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا، لأنه مهما يكن مقداره، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لَا يعد شيئًا مذكورًا في نظير لقاء الله تعالى راضيًا عنه، متقبلا لأعماله، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها.

وإذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته؛ ولذلك قالوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) الفئة: الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفيءَ بعضها إلى بعض، ويظاهر بعضها بعضًا، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>