فيها الكسب أما الدَّين فموضوعه نقد لَا يغل بنفسه، ولا ينتفع من عينه، ولا يجري عليه الغلاء والرخص؛ لأنه ميزان لقيم الأشياء، فلا تتغير قيمته في الأمة، وإن اختلفت قوة الشراء به، فالتفرقة بين البيع والربا ثابتة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا الأدب في تلقى أحكامه، فلا يصح أن نقايس أمام أمر الله ونهيه، لتناقض عموم أمر الله ونهيه، وكل تفكير فيه معارضة لأوامر الله أو لنهيه فهو رد على صاحبه.
ولقد كان مقتضى القياس الظاهري أن يقاس الربا على البيع فيقال: إنما الربا مثل البيع، لَا أن يقاس البيع على الربا فيقال:(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا) ولكن جاء سياق القول على ذلك النحو؛ للإشارة إلى أن أولئك يؤمنون بالربا أشد الإيمان، حتى إنهم ليجعلونه أصلًا في التشبيه، فيشبهون البيع به، وكأن حلَّه أصل، والبيع فرع. ولقد ذكر ابن كثير أنهم بقولهم هذا إنما يعترضون على الله في تحريمه، فاقتضى ذلك أن يكون أصلًا، وكأن مرادهم أن يقولوا: إن البيع يشبه الربا تماما، فما دام الإسلام قد حكم بتحريم الربا، فكان ينبغي أن يحكم بتحريم البيع؛ ولذلك رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله:(وَأَحَلَّ اللَّهَ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وما كان لهم أن يعترضوا على أحكام ربهم، وهو العليم بكل أمورهم، الخبير بالصالح لهم، وينبغي أن يتلقوا أوامره ونواهيه بالإذعان الكامل؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:(فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَة مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ).
الموعظة: اسم لما يأمر الله سبحانه وتعالى زاجرًا للناس إن خالفوا، مبينًا لهم أن المصلحة في اتباعه، ضاربًا لهم الأمثال على أن فيه مصلحتهم في معادهم ومعاشهم؛ والمعنى: من جاءه الأمر من الله سبحانه وتعالى أو النهي عنه فعليه اتباعه والتفكير فيه والاتعاظ به، بالبحث عن حكمته، لَا أن يعترض عليه، ويجعل الشريعة تبعًا لهواه، ويخالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به "(١) بأن يخضع الشريعة لأهواء الناس. وإن انتهى من جاءته موعظة
(١) سبق تخريجه. وقد صححه النووي في آخر الأربعين النووية من رواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.