للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقد ادعى بعضهم لهذا الحديث أن الآية منسوخة؛ لأن حديث النفس لا يمكن التخلص منه؛ وأنها نسخت بقوله تعالى: (لا يُكلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. . .)، ولكن ذلك القول غير مقبول؛ لأنه لَا تعارض بين الآيتين، حتى تنسخ إحداهما الأخرى، كما أنه لَا تعارض بين الآية والحديث الشريف؛ لأن حديث النفس ليس هو ما تكسبه النفس، ويعزمه القلب، وينويه الشخص ويصر عليه؛ وإنما هو تلك الخواطر النفسية التي تعرض للإنسان فتوجهه نحو الهوى والشهوة؛ فإن سار وراءها حتى اعتزمها وأرادها وأصر عليها، ولكن عاقه عائق عن تنفيذها، لَا يكون حديث النفس، بل يكون كسب النفس، ولكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت؛ فالمرتبة الأولى وهي تلك الخواطر ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها موضع ثواب؛ لأنه جهاد النفس، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما ورد في الأثر " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " (١) ويقصد به جهاد النفس؛ إنما موضع المؤاخذة الإصرار بعد الخواطر.

وعلى ذلك: نقول إن موضع التجاوز هو حديث النفس، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل.

(فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) وإن هذه نتيجة الحساب، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام؛ وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لَا قيد يقيدها، ولا شيء يحدها، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية، ولم تركس نفسه في المعاصي، ولم تُحِط به خطاياه حتى تستغرق نفسه، وتستولي على حسه، ويغلب عليه حب الخير؛ وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). أما من استولت عليه الشهوات، وأحاطت به


(١) كشف الخفاء جـ ١ ص ٥١١) طبع مكتبة التراث الإسلامي تحقيق أحمد القراش).

<<  <  ج: ص:  >  >>