مجاهد أنه جاء الحارث بن سويد فأسلم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم كفر فرجع إلى قومه نادما، فأنزل الله:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) فحملها إليه رجل من قومه، فقال الحارث:(إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة) ثم رجع وأسلم (١)، وروي عن الحسن البصري أنه قال: إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصاوى الذين رأوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وأنكروه وكفروا بعد إقرارهم.
وإن هذا هو الذي أميل إليه، فقد قال تعالى في شأن اليهود:(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩). وإن قصص القرآن فيه بيان تعصب الَيهود، وَمعاملتهم للمسلمين، وتلقيهم لهداية القرآن، وتواصيهم بالنفاق والكفر.
على أنه مهما يكن سبب النزول فإن الآية تقرر حقيقة ثابتة، وهي أن النفس أتى تشهد بالحق وتؤمن به ثم تكفر للهوى والعصبية لَا يرجى لها هداية إلا أن تزيل منها درن الغرض، وتنخلع عن العصبية الجامحة بالتوبة النصوح.
وفى النص السامي بعض مباحث:
أولها: ما حقيقة الهداية الإلهية في هذا المقام؛ وإنا نقول في الإجابة غير متعرضين لما بين المعتزلة والأشاعرة من خلاف: إن الهداية هنا هي الهداية المطلوبة في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ)، والمذكورة في قوله تعالى:(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، وهي بيان الطريق الحق، والإرشاد إلى سبيل المعرفة الحقيقية، وإن من يكون على هذه الحال، وهي الإيمان، والشهادة بالحق ومجيء البينات السابقة - لَا يحتاج إلى بيان فوق ما جاء إليه، بل يحتاج إلى عقاب صارم يجعله عبرة لكل من يكون على مثل حاله.
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره: سورة آل عمران ٨٦: ٨٩.