للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اسْتَطَعْتمْ. . .)، واعتبووا هذه الآية ناسخة للسابقة، وفي الحق، إن دعوى النسخ باطلة، فإنه إذا صحت الرواية، فإن المناسب لمعناها أن نقول: إن القوم لقوة إحساسهم الديني لم يرفقوا بل اشتدوا على أنفسهم في العمل، فقاموا في صلاة الليل حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، كما ورد عن سعيد بن جبير، فبين الله سبحانه وتعالى المقدار الذي كُلفوه، وهو الاستطاعة الدائمة، فهم لَا يكلفون إلا المستطاع الذي لَا يشق أداؤه، وهذا هو المعنى الذي يتفق مع الحقائق الإسلامية والسنن المروية الثابتة، فإنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى عابدا يعبد الله حتى أرهق نفسه وغارت عيناه، فقال له عليه الصلاة والسلام: " إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إنَّ المنْبتَّ لَا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى " (١).

وإن أفضل التقوى في الإسلام ما يدوم، وما يمكن أن يستمر الشخص عليه من غير إجهاد ومشقة، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قل " (٢) وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله يجب الديمة من الأفعال " (٣) وذلك لا يكون إلا في دائرة المستطاع، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى تقوى الله حق تقاته في قوله: " حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر " (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ):

النهي ليس منصبا على الموت، وإنه بضم النهي إلى الاستثناء يكون المطلوب أمرا إيجابيا، وهو ما بعد أداة الاستثناء، فيكون المعنى الجملي كونوا على حال الإسلام المستمرة إلى الموت، إذ كل كلام مشتمل على استثناء هو في معناه تكلم بالباقي بعد أداة الاستثناء، فإذا قال قائل: لَا تكرم إلا محمدا، فمعنى القول أكرم محمدا وحده؛ لأن معنى الاستثناء نفي وإثبات، فهو يتضمن النفي لما عدا ما بعد


(١) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (١٢٥٧٩).
(٢) رواه البخاري: القصد والمداومة على العمل (٥٩٨٣)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها - فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (١٣٠٥).
(٣) سبق تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>