ولقد صدق الله تعالى كلماته، فمن وقت أن صارت بطانة الملوك والأمراء من أهل الكتاب، وأمور المسلمين فوضى، تختفى الفوضى السياسية عندما يكون الأمير أو الملك قويا، ولكن تكون في بث أفكار فاسدة، وآراء تحل الوحدة، وقد كان أول من اتخذ كُتَّابا من أهل الكتاب معاوية بن أبي سفيان، وحسبك أن تعلم أنه في عهده انتشرت الإسرائيليات، والأفكار التي تثير الريب في الحقائق الإسلامية، وقد كان يوحنا الدمشقي كاتب عبد الملك بن مروان وأبوه الذي كان كاتبا لمعاوية يبثان الأفكار الفاسدة بين المسلمين، مثل ادعائهم عشق النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب بنت جحش، ومثل إثارة الكلام في الطلاق الثلاث، بل الكلام في أصل الطلاق، وإثارتهم الكلام في أن الله متصف بصفة الكلام أو غير متصف، وأن القرآن قديم أو غير قديم، ومثل إثارتهم الكلام في الجبر والاختيار.
وبذلك كانوا يحلون الوحدة الفكرية، ليتسنى لهم من بعد حل القوة الإسلامية، كما ظهرت النتائج من بعد.
(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، وهي سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لَا يودُّون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى.
ومعنى قوله تعالى:(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي ودوا عنتكم وهلاككم، وإجهادكم وإنزال المشقة بكم، التي يترتب عليها تفريق جمعكم، وذهاب قوتكم. و " ما " في قوله تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هي ما المصدرية التي يسميها علماء النحو الموصول الحرفي، وهي تؤول هي وما بعدها بمصدر.
(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لَا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرق بين البغض والبغضاء فالبغض حال تقبل الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعد