للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على الأعداء من ظفر، ونحن نجيب جوابا آخر، وهو أن تمنى الموت هو تمنى الحرب في سبيل نصرة الله، ومن دخل الحرب متمنيا الموت فإنه لَا يترتب على قتله نصر للأعداء بل يترتب عليه هزيمة لهم، كما أشرنا قريبا، وقد كان السبيل الحق إلى النصر أن يدخل المجاهدون غير حريصين على حياتهم، إنما يحرصون على النصر، ولو كان يموت آحاد منهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كل واحد لا يحرص على الحياة، ولكن يطلب الموت، وَإِنَّ طلب الموت يؤدي إلى الحياة، كما قال الصدِّيق: (اطلب الموت توهب لك الحياة، وفر من الشرف يتبعك الشرف)، وإن الحرص على الحياة يؤدي إلى الجبن، والجبن يؤدي إلى الهزيمة، وإن المجاهد الذي يستحق شرف هذا الاسم يتقدم مريدا عزة الحق، وقابلا الموت، بل يتمناه ليكون شهيدا، وإذا وقع يكون أمرا قد توقعه، ومن بقي من بعد عليهم أن يجددوا العزيمة، ويعيدوا الكرة عليهم، ولذا عتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ أصابهم الغم عندما اشتدت شديدة الحرب عليهم فأصابهم ما أصابهم بل أمرهم أن يثبوا مرة أخرى، وإذا كانوا قد تمنوا الموت، فقد وقع لبعض منهم ما تمنوا، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ).

الفاء هنا للإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام، ومعناه: إذا كنتم تمنيتم الموت فقد رأيتموه رأي العين وشاهدتموه، فوقع ما توقعتم، وقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) تأكيد لحال الرؤية أو تصوير لرؤيتهم؛ لأن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر، فيستحضرها العقل كما وقعت، وكما ظهرت في الوجود، والنظر الذي قرره سبحانه بقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) يتضمن النظر إلى الموقعة كلها، وكيف كان الانتصار في ابتداء الأمر عند الطاعة، ثم كيف كان الانهزام عند المخالفة إرادة عرض الدنيا من بعضهم كما قال تعالى: (مِنكم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مٌن يُرِيدُ الآخِرةَ. . .).

ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات، وقد كانت إرادة واحدة، وكيف تضعضعت بعض الهمم، وكيف كثرت الظنون، وكيف أصابكم

<<  <  ج: ص:  >  >>