للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا تتبعون غاية أيا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء، ولقد ذكر النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهي الغم الشديد، فقال تعالت كلماته: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته، والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غُم الهلال إذا غطاه الغمام فلم يُرَ، والغَم يطلق على الألم الذي يغطي العقل والإحساس والمشاعر، والذي يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدري ما الخلاص منه، فهو من الغُمَّة، وقد جاء في أساس البلاغة: (وأنه لفي غُمة من أمره إذا لم يهتد للخروج منه). والباء في قوله تعالى: (بِغَمٍّ) يحتمل أن تكون للسببية، ويحتمل أن تكون بمعنى (على) أو دالة على المصاحبة، وعلى الأول يكون المعنى: أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، ونزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمخالفة وعصيان أمره، وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم أو غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وغم الاضطراب.

وكان ترادف الغموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة إن اعتبرتم واتعظتم، هو: ألا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد. ويقول الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف الغموم: (لكيلا تحزنوا: لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضْروا (١) باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار)، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن أظهر في نظرنا، والله - سبحانه - أعلم بمراده.


(١) يقال: ضَرِيَ الكلبُ وأضْراهُ صاحِبُه أي عوده وأغراهً بالصيد، ويُجْمع على ضَوار. [لسان العرب - باب الضاد - ضرا]. والمقصود هنا أنهم تدربون على احتمال الشدائد ومواجهة الصعاب؛ فيصيرون شجعانا تشبيها لهم بالسباع الضارية.

<<  <  ج: ص:  >  >>