للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويثير الفقهاء بحثا في هذا الموضوع، وهو حول ما قرروه من أن الدفاع عن النفس عند محاولة الجاني للقتل أمر مشروع لَا يتجافى مع التقوى، ويقرر الحنفية أن الشخص إذا تأكد أنه مقتول إذا لم يدفع عن نفسه ولو بالقتل، يكون الدفاع واجبا حفظا لنفسه، ويكتفي الأكثرون من الفقهاء بالقول بأن الدفاع يكون مشروعا، ولا يكون لازما، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإنه ليس من التقوى أن يقف المجني عليه مكتوف اليد لَا يدافع.

وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختيارية، أي أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى، أما الحنفية الذين قالوا: إن الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا: إن السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .)، ونقول: إن موقف ولدي آدم خارج عن موضوع الخلاف؛ لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لَا يستشري شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل، ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدري أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " (١) على أن في الصبر أجرًا وقد قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)، فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف، وخصوصا أن الأمر بين أخوين، لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير. (إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) هذه هي الكلمة الثالثة، وهي تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث


(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الإيمان.

<<  <  ج: ص:  >  >>